أصرت مجموعة من أصوات السياسة الخارجية في واشنطن على ضرورة استمرار الحرب الكورية في عامها السبعين، وتتركز مجادلة هذه المجموعة بشكل رئيس في أن إعلان نهاية الحرب قد يوفر لغة تقضي بدعم انسحاب 28.500 جندي أميركي من كوريا الجنوبية، ويبرز أحد الأمثلة النموذجية في هذا الصدد من خلال مقالة كتبها أخيراً بيتر بروكس من مؤسسة هيريتغ، وقال فيها «بمجرد أن يفترض إعلان السلام بين واشنطن وبيونغ يانغ ما الذي يمكن أن يمنع كوريا الشمالية من مطالبة الولايات المتحدة بخفض إضافي في المناورات العسكرية الأميركية– الكورية الجنوبية؟»، وبالمثل وصف الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز نيكولاس ايبرستات من معهد إنتربرايز الأميركي إعلان السلام بـ»الوهمي» لأنه «مع حصول حكومة كيم على إعلان موقع فإن من الطبيعي أن تطالب كوريا الشمالية بمغادرة القوات الأميركية من شبه الجزيرة الكورية».

وتستند هذه المجادلة إلى أسس غامضة عدة، وكبداية فهي تسيء فهم سبب وجود القوات الأميركية في كوريا الجنوبية، وتلك القوات ليست موجودة هناك لمقاومة كوريا الشمالية فقط بل على شكل تمركز رئيس للقوات العسكرية الأميركية في شرق آسيا، وخصوصاً في ضوء صعود الصين، ثم إن إعلان السلام مع كوريا الشمالية لن يغير كثيراً من وضعية الولايات المتحدة على الصعيد الاستراتيجي في هذا الصدد.

Ad

وقد انتهت الحرب العالمية الثانية منذ أكثر من 70 سنة، لكن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بعشرات الآلاف من الجنود في دول المحور السابقة، وهي ألمانيا وايطاليا واليابان، ولا توجد حرب قائمة رسمية لتبرير وجود تلك القوات، وينسحب الشيء ذاته على القوات المتمركزة في كوريا الجنوبية.

من يهتم إذا تقدمت كوريا الشمالية بمطالب؟

لا تخضع واشنطن وسيول لأي التزام بالتصرف والعمل لمجرد أن بيونغ يانغ طلبت إجراء من نوع ما، ثم إن استمرار الوجود العسكري الأميركي أمر تقرره الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية فقط، وعلى أي حال كانت بيونغ يانغ حريصة على عدم إثارة مشكلة بسبب ذلك الوجود في الجولة الأخيرة من المحادثات الثنائية، وسبق أن أبلغ الرئيس الكوري مون جاي إن سيول في أول لقاء قمة جمعه مع الزعيم الكوري الشمالي كيم في 28 أبريل الماضي أن بيونغ يانغ لا تنوي المطالبة بانسحاب القوات الأميركية من البلاد، وكررت كوريا الشمالية ذلك بصورة مباشرة في الآونة الأخيرة خلال لقاء قمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وعندما زار المبعوث الكوري الشمالي كيم يونغ تشول البيت الأبيض في الشهر الماضي لتسليم رسالة من كيم جونغ أون تعهد ذلك المبعوث بألا تطرح بلاده قضية وجود القوات الأميركية حتى بعد دخول نظام السلام حيز التنفيذ في شبه الجزيرة الكورية، وقد تكون كوريا الشمالية تكذب طبعاً في هذا الطرح كما فعلت مراراً من قبل.

دعم الرأي العام الأميركي

وتجدر الإشارة إلى أن الرأي العام الأميركي يؤيد بصورة ثابتة الدفاع عن كوريا الجنوبية وهي حليف رئيس للولايات المتحدة في شرق آسيا.

وعلى الرغم من الزعم الشائع فقد سئم الأميركيون من التورط الخارجي وتميل العامة في الولايات المتحدة– من المحافظين والليبراليين على حد سواء– إلى استخدام القوات الأميركية من أجل الدفاع عن كوريا الجنوبية في حال تعرضها الى هجوم من جانب كوريا الشمالية، بحسب استطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو حول الشؤون العالمية في شهر يوليو الماضي.

ومن باب اليقين، هناك أميركي بارز واحد لديه وجهة نظر غامضة عن القوات الأميركية في كوريا وهو الرئيس دونالد ترامب، وبحسب نظرته السوقية الى قضايا العالم فإن الحلفاء استغلوا الترتيبات الأمنية التي وفرتها الولايات المتحدة ولا تشكل كوريا الجنوبية استثناء منها، كما أن المفاوضات التي اختتمت حديثاً حول اتفاقية إجراءات خاصة والتي تقضي بطرح بنية مشاطرة التكلفة المتعلقة بالقوات الأميركية بين واشنطن وسيول كانت إشارة إلى ازدراء يشعر به ترامب إزاء التحالف الأميركي- الكوري الجنوبي، وهذه المفاوضات التي تحدث بشكل روتيني كل خمس سنوات في العادة قد تعثرت بعد أن طالبت الولايات المتحدة بصورة مشددة أن تضاعف كوريا الجنوبية مساهمتها فيها من نحو 864 مليون دولار إلى 1.6 مليار في السنة، وقد ضاعف من سوء هذه الخطوة حدوثها بعد وقت قصير من تعهد كوريا الجنوبية بدفع معظم المبالغ التي نجمت عن تحديث القاعدة الأميركية كامب همفري في جنوب سيول والتي بلغت 13 مليار دولار.

وإضافة إلى ذلك يقال إن الدولتين وافقتا على اتفاق من شأنه مساهمة كوريا الجنوبية بنحو مليار دولار على أن تتم مراجعة هذا الاتفاق بعد سنة واحدة فقط.

عذر ترامب للانسحاب

ودفع هذا كله بعض المحللين إلى القول إن إعلان انتهاء الحرب قد يعطي الرئيس ترامب العذر من أجل سحب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية. وعلى سبيل المثال كتب سو مي تيري من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في الآونة الأخيرة يقول: «إذا كانت الحرب الكورية قد انتهت بصورة رسمية وعاشت الكوريتان في حالة سلام ما المنطق الذي يبرر وجود 28 ألف جندي أميركي في كوريا الجنوبية؟ ثم إن خطر الانسحاب الأميركي يزداد بسبب وجود ترامب في البيت الأبيض، وهو لن يحتاج الى الكثير من الجهد من أجل سحب القوات الأميركية، كما أن إعلان سلام يمكن أن يوفر تماماً العذر الذي يبحث ترامب عنه لهذه الغاية».

ولكن يوجد سبب وجيه يدفع إلى التشكيك في قدرة الرئيس ترامب على سحب القوات الأميركية كلها من كوريا بموجب أمر رئاسي.

وكان ترامب احتل عناوين الصحف عندما أعلن في شهر ديسمبر من عام 2018 انسحاب بلاده من الحرب الأهلية في سورية، وهي الخطوة التي دفعت وزير الدفاع الأميركي حينذاك جيمس ماتيس إلى الاستقالة احتجاجاً، كما أن الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي بقيادة السيناتور ميتش ماك كونيل وجهوا في إجراء نادر توبيخاً الى ترامب. ولكن بعد نحو شهرين تقريباً لم يكن لدى وزارة الدفاع– البنتاغون– حتى مجرد جدول زمني لذلك الانسحاب لأن الدول المشاركة لم تتمكن من وضع ترتيبات لما بعد الانسحاب الأميركي.

الحرب في سورية

ويحدث هذا كله بسبب انسحاب الولايات المتحدة من المشاركة في حرب غير شعبية بعد أربع سنوات يشارك فيها أكثر قليلاً من أربعة آلاف جندي أميركي فقط، ومن المؤكد أن التداعيات ضد انسحاب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية ستكون أكبر كثيراً بشكل لا يقارن حتى قبل أن النظر في المضاعفات اللوجيستية التي ستنجم عن سحب 28.500 جندي أميركي من كوريا الجنوبية، حيث اندمجوا مع القوات الكورية الجنوبية طوال أكثر من ستين سنة. وحتى في الحالة غير المحتملة، حيث قد يعلن الرئيس ترامب الانسحاب الكامل من كوريا بعد القمة الثانية مع الزعيم الكوري الشمالي، فإن الحصيلة الأكثر احتمالاً هي أن ترامب لن يكون في موقع الرئاسة قبل أن تغادر القوات الأميركية ذلك البلد.

ولكن اللافت بقدر أكبر في هذه المجادلة هو أن المنطق يقول إن على الولايات المتحدة عدم انهاء الحرب الكورية لأن ذلك قد يدفع الرئيس الأميركي الى سحب قواته من كوريا الجنوبية. وكما سبق ذكره فلا شيء يمكنه منع الولايات المتحدة بشكل رسمي من إنهاء الحرب الكورية والاحتفاظ بقوات هناك مادامت كوريا الجنوبية راغبة في استضافة قوات أميركية في أراضيها، وهي كذلك حقاً. ولكن هذا المنطق غير السليم يشير الى قضية جوهرية أكثر وهي أن إعلان إنهاء الحرب ليس الجانب الذي يقوض التحالف الأميركي-الكوري لأن الضرر يأتي من الولايات المتحدة ورئيسها، وبدلاً من المطالبة باستمرار مأزق الحرب بين الكوريتين إلى ما لا نهاية ربما يتعين على محللي السياسة الخارجية الأميركية تخصيص مزيد من الوقت للتفكير في كيفية توجيه الحكومة الأميركية نحو إنجاز سلام في شبه الجزيرة الكورية مع إبقاء العلاقة الوفية مع حليفتها في سيؤل.