طوال عام 1988 كانت طائرات الميغ 17 المقاتلة تقلع من ضواحي إحدى المدن الصومالية لتلقي القنابل على المدنيين في حين أطلق السكان المحليون على العملية اسم 4-4-4 لأن الطيارين كانوا يلقون 4 قنابل ويقبضون 4 آلاف دولار في مقابل عملية تستمر 4 دقائق فقط، وكان دكتاتور تلك الدولة يجلس على بعد مئات الأميال في العاصمة. قد تبدو تلك الروايات مألوفة بالنسبة الى أكراد العراق لكنها حدثت على بعد 3 آلاف كيلومتر في مقديشو وهي عاصمة الصومال.كانت 1991 سنة حاسمة في كردستان العراق وأرض الصومال، حيث قامت ثورة في المنطقتين ضد النظام الدكتاتوري فيهما، ولكن الفارق كان في أن رئيس الصومال زياد بيري هرب من البلاد إلى المنفى حيث توفي بعد أربع سنوات، في حين استمر حاكم العراق في الحكم لفترة من الزمن، وازدهر الأكراد في ظل ملاذ آمن وفرته منطقة حظر الطيران، وعلى الرغم من ذلك حصلت كردستان العراق والصومال على حكم ذاتي وأجرت حكومة كردستان الإقليمية انتخابات في عام 1992 مع موافقة زعيم حزب كردستان الديمقراطي مسعود برزاني وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني على اقتسام السلطة بينهما، وفي الصومال شهد عام 1993 أول انتخابات رئاسية وارتفع عددها اليوم الى خمسة انتخابات.
وهناك حالات مماثلة أخرى، فقد عملت حكومتا كردستان العراق والصومال في ظل عقوبات ثنائية فرضها المجتمع الدولي على البلدين، وخلال فترة تلك العقوبات قامت الولايات المتحدة والأمم المتحدة بايصال مساعدات بصورة غير متناسبة عن طريق بغداد ومقديشو وهو ما عزز عمليات الفساد هناك.
نهاية المقارنة
وعلى أي حال، فقد انتهت المقارنة بين الحالتين في الوقت الراهن، وانتعشت الصومال كدولة ديمقراطية فتية على الرغم من عدم حصولها على اعتراف بها، وهو جانب أفضى الى عقبات اقتصادية قاسية ولكن قطاعها الخاص تمكن من الازدهار والتقدم. وفي المقابل يعتبر إقليم كردستان العراق الآن الإقليم الأقل ديمقراطية في البلاد، وفي حين اختار شعب الصومال خمسة رؤساء منذ عام 1993 اختار إقليم كردستان العراق رئيساً واحداً فقط، وقد تكون فترة رئاسة مسعود برزاني انتهت لكنه لا يزال يحتفظ بقصوره وجهازه من الموظفين، كما يسيطر على الأمور المالية الإقليمية. والسؤال هو كيف تمكنت جمهورية الصومال الفقيرة من تحقيق أداء أفضل من الإقليم الكردي الغني بالنفط؟ ربما يتمثل الجواب بالفارق الكبير بين الصومال وكردستان العراق، حيث فصلت الصومال بشدة بين العمل التجاري والسياسة، وبشكل تقليدي كانت المواشي العمل الرئيس التجاري وجهود التصدير، وكانت النخبة في ميناء بربرة الرئيسي هي التي حققت التسوية السياسية التي أفضت الى الاستقرار في الصومال في حين انجرفت بقية أنحاء البلاد نحو الفوضى. وفي حين أصبحت الكثير من الشركات في الصومال الآن أكثر تنوعاً وتقدماً فإن خطا فاصلا موجود بين الطبقات السياسية والاقتصادية، وقد يدعم رجال أعمال مرشحين سياسيين لكنهم نادراً ما يتحولون الى مرشحين كما لا يخشون عواقب دعمهم لمرشح خاسر.وضع كردستان العراق
وعلى العكس من ذلك فإن الطبقة السياسية هي طبقة رجال الأعمال، ولا تتردد جماعة البرزاني وطالباني في استخدام النفوذ السياسي للحد من المنافسة، وهو ما أثر في الاقتصاد في المنطقة الكردية، وفي شتى أنحاء كردستان خلقت أعمال التطوير العمراني وهماً زائفاً عن الثروة. ولكن ما لا يدركه الكثير من العمال الدوليين والصحافيين الزائرين عندما يعبرون عن إعجابهم بالنجاح الذي حققه إقليم كردستان العراق هو أن معظم الشقق والفنادق فارغة الى حد كبير وأن صورة النجاح مصطنعة، وستنفجر الفقاعة عندما تنفد أراضي الدولة التي وُفرت لأولئك الذين لديهم علاقات سياسية تحت ستار الخصخصة.أمن من دون محاباة
في حين تعتبر ميزانية الصومال– عدة مئات من ملايين الدولارات فقط– صغيرة بشكل نسبي فقد استُخدمت بصورة قصوى، وتمثل أحد انتصارات الصومال في توحيد عناصر الميليشيا المختلفة في جيش واحد بعد عام 1991 وهو شيء لا يزال أكراد العراق يتحدثون عنه لكنه لم يتحقق بعد، وتخصص حكومة الصومال نحو ثلث ميزانيتها من أجل دعم القوات المسلحة وخفر السواحل، وفي حين انجرفت بقية أنحاء البلاد نحو الفوضى ظلت أرض الصومال المعروفة باسم (صوماليلاند) خالية من عمليات القرصنة، ولم تسلم أرضها الى حركة الشباب التي أعلنت قبل سنوات تحالفها مع تنظيم القاعدة.وعلى العكس من ذلك، فإن لدى إقليم كردستان العراق ميزانية أضخم كثيراً لكنه سمح لتنظيم داعش بالتطور بشكل جزئي في المناطق الخاضعة لحمايته ثم عمد ذلك التنظيم الى الهرب بدلاً من أن يقاتل هناك.من جهة أخرى عززت البيئة المشجعة على الأعمال التجارية من قدرة الصومال على تحقيق الكثير بإمكانات أقل، ويشتمل الإقليم على ثاني أكبر مصنع في إفريقيا للكوكا كولا وهو ما دفع صحيفة فايننشال تايمز إلى ملاحظة أن أرض الصومال حصلت على «موافقة في ميدان العمل التجاري» على الرغم من افتقارها الى اعتراف دبلوماسي. وكان لشركة كوكا كولا حضورها التاريخي في العراق ولكن الحرب ونظام الحكم هناك أجبراها على المغادرة. وفي عام 2006 اجتذب إقليم كردستان العراق امتيازاً إلى منطقته ارتبط بشكل مبدئي بالعائلة الحاكمة ثم استولت عليه شركة تركية.وقد أصبحت أرض الصومال جمهورية بريد إلكتروني تماثل بعض الدول مثل إستونيا، وفي حين تعتبر البنية التحتية مثل الطرقات في أرض الصومال سيئة فإن القدر القليل من مساعدات التنمية والشركات المحلية أفضى الى تحقيق تقنية جديدة نقلت البلاد إلى المستقبل بصورة واعدة، وتوشك شركات الهواتف المحمولة على الكشف عن شبكة 5 جي على مستوى البلاد، وفي عام 2009 أطلقت تليصوم وهي أكبر مزود للهواتف المحمولة تطبيقات تحويل عملات تدعى «زاد». واليوم تتم معظم عمليات الشراء بهذه الطريقة، ومن خلال جعل تحويل الأموال إلكترونية تمكن المسؤولون في أرض الصومال من محاربة الاحتيال الذي لا يزال يرهق اقتصاد إقليم كردستان العراق، وفي حقيقة الأمر لا تزال تقاوم تطبيق عمليات مصرفية عصرية بأن تجازف بأخطار قد يشارك فيها الكثير من المواطنين.مشكلة النفط
وربما يمثل النفط مشكلة لأن اكتشافه في كردستان العراق أفضى الى أسوأ تجاوزات الفساد في ذلك الجزء من البلاد، وستكون الحالة أكثر سوءاً إذا أكدت شركتا دي إن أو وجينيل وهما من الشركات الكبرى العاملة في إقليم كردستان العراق، وفي استكشاف مكامن أرض الصومال، وجود احتياطيات نفطية بكميات تجارية.ويحب المسؤولون الأكراد إبعاد مسؤوليتهم عن فشل إدارتهم عبر توجيه اللوم لبغداد، وربما حان الوقت بالنسبة الى السكان الأكراد والدبلوماسيين والمستثمرين المحتملين لطرح السؤال حول كيفية تمكن إقليم مثل أرض الصومال يتمتع بتاريخ مماثل وعدد مكافئ من السكان ويواجه أيضاً المشاكل الجيوسياسية ذاتها، من الخروج من الحرب والدمار ليس على شكل دولة ديمقراطية فقط بل بقدر أكبر من الاقتصاد السليم والتفكير العملي والتجاري وبشكل يتفوق على كردستان العراق.