ما أثارني لكتابة هذا الموضوع هو رؤيتي لصورة تظهر فيها إحدى السيدات التي لا شأن لها بالموسيقى والفن بشكل عام، بجانب أحد المشاهير من الموسيقيين المعاصرين، وهي في حالة من الابتهاج والفرحة العارمة. ليس في ذلك ثمة عجب ولكن ما هو معتاد أن ترى المعجبين يلتقطون الصور مع محبيهم من الفنانين وهذه الحالة يكون فيها الشخص المعجب على اطلاع بتجربة هذا الفنان ومن المتابعين لإصداراته ورحلاته الفنية، لذلك تجد أنه من الطبيعي أن يشتري المعجب التذكرة، وربما دفع أجرا إضافيا كي يسمح له بالتصوير مع الفنان.إلا أن تلك السيدة التي بالصورة تفتقر إلى كل تلك المقومات التي لدى المعجبين، فلا هي مطلعة على تجربة هذا الفنان، كما أنها لم تشترِ تذكرة ذلك الحفل، ولربما جلست طوال الحفل وهي تناجي الزمن ليمضي سريعاً كي تقف بجانب هذا الفنان لتصور معه، وبعدها تطلقها في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الأمر أعاد بي الذاكرة لأمر مشابه كنت أجده يتكرر أمامي عندما كنت أدرس في القاهرة، حيث كنت أواظب على حضور الحفلات الموسيقية التي تقام بدار الأوبرا، إذ كان من الأمور الطريفة التي تتكرر أمامي آنذاك رؤية بعض السيدات وهن يدخلن دار الأوبرا مرتديات رداءً فاخراً من الفرو (بالرغم من أن الأجواء في الخارج لا تستوعب ارتداء هذا الرداء) ببهو الاستقبال، وتراهنّ في حالة من الاستعراض أمام بعضهن كما يفعل ذكر الطاووس، وقبل بدء العرض والدخول للقاعة كن يتوجهن إلى نافذة خاصة كي يودعن هذا الفراء الضخم ليتم تعليقه في إحدى الزوايا وهو الأمر الشائع بكل دور الأوبرا، ومع دخول الجمهور إلى قاعة العرض وبعد انطلاق العرض تبدأ أولئك السيدات في الثرثرة المسموعة للآخرين طوال العرض غير عابئات بما يدور على خشبة المسرح، بمعنى آخر أنهن أصبحن مصدر إزعاج لكل من في القاعة، وأيضاً لمن على خشبة المسرح، وبعد نهاية العرض ينطلقن نحو نافذة الفراء لاسترجاع فراءاتهن الثمينة.خلاصة القول أن هذه الحفلات بالنسبة إلى تلك السيدات ما هي إلا فرصة سانحة لارتداء قطعة ثمينة لديهن مركونة بخزانة الثياب. لقد كانت الموسيقى الكلاسيكية (بمعناها العام لا بمعنى المرحلة الكلاسيكية) حتى بدايات القرن الثامن عشر شيئاً من الترف، لذا تجد أن هذا النوع من الموسيقى يقام في القصور وبلاطات الأمراء والأثرياء، كما أن الموسيقيين الذين كانوا يقدمون تلك الموسيقى أشبه بالخدم في تلك القصور، فكانوا يقيمون ويعيشون في تلك القصور ويشاركون الخدم في المأكل والمسكن، حتى إن مؤلفاتهم الموسيقية لا تأتي نتيجة رغبة ذاتية منهم في التأليف بقدر ما كانت تأتي تنفيذاً لرغبات الأمراء بالدرجة الأولى.إلا أن هذا الوضع تغير لاحقاً مع الحقبة التي عاش فيها بيتهوفن، فلقد سعى إلى إخراج هذا النوع من الموسيقى من نطاق القصور، وبالفعل تحرر من سيطرة رغبات الأمراء والأثرياء في مؤلفاته فأصبح يتناول مواضيع تتعلق بأمور الحياة التي يعيشها لتكون أعماله مرآة لما يجول في خاطره، حتى إنها شملت الأمور السياسية، وخير مثال على ذلك السيمفونية الثالثة المسماة البطولة (Eroica)، فما هو معروف أنه بعد أن أنهى كتابته لهذه السيمفونية كتب على غلافها إهداء إلى القائد الفرنسي نابليون بونابرت، إعجاباً منه لقيادته الثورة الفرنسية، إلا أنه ما لبث أن تراجع عن هذا الإهداء بعد أن نصب نابليون نفسه إمبراطوراً على فرنسا، فشطب ما كتبه بطريقة مزقت الورقة إلى حد ما وهي إشارة لغضبه آنذاك، ووضع إهداء لشخص آخر. بعد هذه المرحلة وخصوصا في المرحلة الرومانتيكية أصبح الموسيقيون أكثر تحرراً وعاشوا بحريتهم خارج البلاط، وصاروا يؤلفون الموسيقى التي تعبر عن ذاتهم بشكل مباشر.هذا الأمر قام به السيد درويش أيضاً في مصر، فبعد أن كانت الموسيقى والطرب حصراً على قصور الأثرياء، حيث كانت مواضيع الأغاني تتراوح بين العشق ومدح السلطان، انطلق بها خارج هذه الدائرة تماماً، فقدم الأغاني التي تمس الإنسان البسيط وتلمس مشاكله اليومية. من هنا بدأت الموسيقى تصل إلى العامة وتصبح في متناول الجميع، فلم تعد نوعاً من الترف الذي يتناوله الأثرياء كيفما شاؤوا وحينما رغبوا.بعد بيتهوفن وبعد سيد درويش سار الكثير من الموسيقيين على نهجهم، فأثروا الساحة الموسيقية بمؤلفات تلمس جميع نواحي الحياة، وتتفاعل مع هموم الناس جميعاً، وبهذا خرجت الموسيقى من كونها ترفاً لتصبح حاجة ضرورية للإنسان، إلا أن ما يحصل الآن وما يعمل البعض على تكريسه هو العودة بالتاريخ للوراء كي تصبح الموسيقى حكراً على فئة معينة لا في متناول الجميع. ليس مستغرباً أبداً أن تكون حال السيدة المبتهجة كحال نصف من حضر تلك الحفلة إن لم يكن أكثر، وهو الأمر المشابه لسيدات الفراء، فحضورهن ليس متعلقاً بما يقدم على خشبة المسرح بقدر ما هو إرضاء لغرورهن والسعي لتمييز أنفسهن من خلال تقمص حالة لا علاقة لهن بها، في حين أن آخرين ربما هم من المعجبين الحقيقيين والمتعطشين لهذا النوع من الفنون وتمثل الموسيقى لهم حاجة لا ترفاً، لا يجدون تلك الفرصة لحضور هذه الحفلات.
توابل - ثقافات
الموسيقى ليست ترفاً
11-03-2019