ذاكرة وصور
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
نقلت تلك الباخرة الفاخرة العائلة الخليجية إلى عوالم مختلفة شديدة الجمال من موسيقى وتاريخ وتراث وفن وحضارة وأزياء راقية وبشر متحضرين جداً لديهم الكثير من الأخلاقيات التي قد لا تتوافر في الكثير من الأقرب لهم. حينها لم يدرك الأطفال والصبايا أهمية الرحلة، كان شغفهم بالوصول السريع إلى النقطة الأخيرة في الرحلة وهي بيروت ليستقروا في الجبل، حيث يصيف معظم أهل الخليج، وحيث يقضون المساءات سيراً على أرصفة عالية وبحمدون ذهابا وإيابا معوضين أشهر العزلة بين الجنسين في دولهم المختلفة. هنا يكثر الهمس وتبادل أرقام الهواتف والمواعيد عند الغروب بعيداً عن الأعين ربما على حافة الجبل أو في نهاية الضيعة، أو ربما حتى عند محل العصير. لم يدرك الصغار أن هذه الرحلة ستفتح أمامهم عوالم لن يستطيعوا الوصول إليها دون تجربة غنية كهذه وبعيدة عن النماذج الروتينية في الرحلات الصيفية لأبناء الخليج في تلك السنوات، فلم تكن رحلة للتسوق ولا لزيارة المطاعم والمراقص لكنها كانت شكلاً من أشكال الغوص في عمق الحضارة الأوروبية بتنوعاتها واختلافاتها والاقتراب من شعوب قد تتقارب معهم في كثير من الأمور ألا يقال إن كل سكان الضفة الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط يتشابهون في طريقة الكلام بالنبرات العالية والسرعة والجلوس لساعات لاحتساء القهوة والتمتع بتذوق الطعام والاسترخاء في قيلولة لساعات قبل عودة الروح لشوارع تهجر بالكامل في ساعات الظهيرة. في الإسكندرية حيث المحطة قبل الأخيرة نزل كل الركاب للسفر إلى القاهرة لزيارة الأهرامات والآثار الفرعونية في حين بقيت العائلة وحدها على ظهر تلك الباخرة التي بدت حينها عملاقة، في حين هي صغيرة مقارنة بالبواخر السياحية الحديثة الآن. كانت الأسرة بكاملها قد تعرفت على الآثار في مصر القديمة والفرعونية في عدد من الزيارات السابقة، تجمع البائعون حول الباخرة عند رصيف الميناء وصاروا ينادون على بضائعهم، هذا يحمل نماذج للأهرامات وأبوالهول، وذاك يحمل ورق البردي، وثالث ينادي على الكركرديه والسوداني. تنوعت البضائع والطريقة واحدة، والعائلة تتطلع لهم بملل شديد، فالوقوف في ميناء ليومين ليس مما يثير فضول الشباب والأطفال، حتى قفز أحد الباعة وبخفة الدم المصرية ليوجه كلمته لها بالتحديد "نفعيني والنبي ده سنجام فيلم حلو" يضحك الجميع حتى يغشوا من الضحك، خصوصا أنه وجه الحديث لأحدهم وهي الأكثر سمارا متصوراً أنها هندية وهنا طبعا موضوع للندرة بين الإخوة، بعد ضحكهم قال إيه عرب طيب نفعوني فكان له ما أراد. هذه ذاكرتنا حتى آخر العمر، هذه بقايا صور في استعارة من الرائع حنا مينه، كلما ضاقت مساحات الأمل عدنا لهذه الصور ننبشها فنعود للتعرف على أنفسنا ربما، ونخزن بعضا من جرعة أمل. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية