ذاكرة وصور
هي ليست بعيدة عن المرفأ، والبواخر تعبر بطيئا بين موجة وموجة وفجأة تختفي باخرة الشحن الحمراء في الأفق فتبدأ هي بمطاردة الباخرة القادمة بعينيها، وهي تبحث عن شيء ما، هي نفسها لا تعرفه لكنها تدرك حتما أن أكثر ما يبعث الأمل في صدرها هو الجلوس عند حافة الشاطئ البعيد عن الضوضاء القريب من الموجة حيث هي جارة للنوارس. لم تعرف الموانئ إلا تلك التي كانت عند نهاية شارع بيتهم بعد خزان الماء المعروف محليا بـ"تانكي الماي" الذي يزود كل مدينتهم بالماء الشديد الملوحة، حيث كانت السفن الشراعية التقليدية مرصوصة الواحدة جنب الأخرى، لم تعرف الموانئ التي تعج بضجيج البواخر العملاقة حتى تلك الرحلة الصيفية التي تبدو اليوم وكأنها تسكن بين الحلم والواقع، في صيف حار قرر والدها أن يأخذهم في باخرة سياحية ليتجولوا في البحر المتوسط المعروف عند الكثيرين بالبحر الأبيض المتوسط، ولا يعرف أحد أن يفسر لماذا هو باللغة الإنكليزية وكل اللغات البحر المتوسط إلا في اللغة العربية فهو أبيض، ربما لكثرة الزبد في شواطئه أو ربما لتسمية قديمة بقيت عالقة به.بدأت الرحلة من إيطاليا في ميناء جنوة أو نابولي، هنا سقطت الذاكرة رغم أن كثيرا من التفاصيل الدقيقة بقيت مخزنة سنين طويلة، ولم تندثر تحت غبار الأيام، كانت الباخرة شبيهة بما نراه اليوم في الأفلام التاريخية، حيث القاعات الفخمة والمطعم الرئيسي بالطراز الإيطالي الأصلي والمسبح في النهار وغرف البلياردو، علقت هي بموجة منذ تلك الرحلة وبقيت سجينة الموج والبحر. تبقى المدن البحرية الأقرب إلى قلبها والأكثر نشراً لموجات من الضحك والسعادة، ولا تسعد بالمدن التي لا تسكن قريبة من الماء. ماء هو في شكل بحر أو ماء هو في شكل نهر أو في بحيرة ولكن لا شيء يشبه الموجة التي تسكن قلبها.
نقلت تلك الباخرة الفاخرة العائلة الخليجية إلى عوالم مختلفة شديدة الجمال من موسيقى وتاريخ وتراث وفن وحضارة وأزياء راقية وبشر متحضرين جداً لديهم الكثير من الأخلاقيات التي قد لا تتوافر في الكثير من الأقرب لهم. حينها لم يدرك الأطفال والصبايا أهمية الرحلة، كان شغفهم بالوصول السريع إلى النقطة الأخيرة في الرحلة وهي بيروت ليستقروا في الجبل، حيث يصيف معظم أهل الخليج، وحيث يقضون المساءات سيراً على أرصفة عالية وبحمدون ذهابا وإيابا معوضين أشهر العزلة بين الجنسين في دولهم المختلفة. هنا يكثر الهمس وتبادل أرقام الهواتف والمواعيد عند الغروب بعيداً عن الأعين ربما على حافة الجبل أو في نهاية الضيعة، أو ربما حتى عند محل العصير. لم يدرك الصغار أن هذه الرحلة ستفتح أمامهم عوالم لن يستطيعوا الوصول إليها دون تجربة غنية كهذه وبعيدة عن النماذج الروتينية في الرحلات الصيفية لأبناء الخليج في تلك السنوات، فلم تكن رحلة للتسوق ولا لزيارة المطاعم والمراقص لكنها كانت شكلاً من أشكال الغوص في عمق الحضارة الأوروبية بتنوعاتها واختلافاتها والاقتراب من شعوب قد تتقارب معهم في كثير من الأمور ألا يقال إن كل سكان الضفة الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط يتشابهون في طريقة الكلام بالنبرات العالية والسرعة والجلوس لساعات لاحتساء القهوة والتمتع بتذوق الطعام والاسترخاء في قيلولة لساعات قبل عودة الروح لشوارع تهجر بالكامل في ساعات الظهيرة. في الإسكندرية حيث المحطة قبل الأخيرة نزل كل الركاب للسفر إلى القاهرة لزيارة الأهرامات والآثار الفرعونية في حين بقيت العائلة وحدها على ظهر تلك الباخرة التي بدت حينها عملاقة، في حين هي صغيرة مقارنة بالبواخر السياحية الحديثة الآن. كانت الأسرة بكاملها قد تعرفت على الآثار في مصر القديمة والفرعونية في عدد من الزيارات السابقة، تجمع البائعون حول الباخرة عند رصيف الميناء وصاروا ينادون على بضائعهم، هذا يحمل نماذج للأهرامات وأبوالهول، وذاك يحمل ورق البردي، وثالث ينادي على الكركرديه والسوداني. تنوعت البضائع والطريقة واحدة، والعائلة تتطلع لهم بملل شديد، فالوقوف في ميناء ليومين ليس مما يثير فضول الشباب والأطفال، حتى قفز أحد الباعة وبخفة الدم المصرية ليوجه كلمته لها بالتحديد "نفعيني والنبي ده سنجام فيلم حلو" يضحك الجميع حتى يغشوا من الضحك، خصوصا أنه وجه الحديث لأحدهم وهي الأكثر سمارا متصوراً أنها هندية وهنا طبعا موضوع للندرة بين الإخوة، بعد ضحكهم قال إيه عرب طيب نفعوني فكان له ما أراد. هذه ذاكرتنا حتى آخر العمر، هذه بقايا صور في استعارة من الرائع حنا مينه، كلما ضاقت مساحات الأمل عدنا لهذه الصور ننبشها فنعود للتعرف على أنفسنا ربما، ونخزن بعضا من جرعة أمل. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية