مستقبل الحداثة في الخليج
بين يدي كتابان مهمان لعلمين خليجيين بارزين: الأول، للمؤرخ الكويتي الدكتور عبدالمالك خلف التميمي "الحداثة والتحديث في دول الخليج العربية منذ منتصف القرن العشرين"، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة 2018 الكويت. الثاني، لعالم الاجتماع البحريني الدكتور باقر سلمان النجار "الحداثة الممتنعة في الخليج العربي- تحولات المجتمع والدولة"، دار الساقي 2018 بيروت. ما يجمع بين رؤيتي المؤرخ وعالم الاجتماع نحو الحداثة والتحديث في الخليج عبر سبعة عقود من التحولات، مرت بها دول المجلس، وتحولت فيها من إمارات إلى دول، أن الثروة الأحفورية (النفط والغاز) وإن نجحت في استجلاب التحديث لكنها لم تستجلب الحداثة. التحديث: تشاهد مظاهره وتجلياته، كما تلمس تجسيداته، في كل مظاهر الحياة الخليجية الحديثة: في التطور العمراني، في المشاريع الإنشائية العملاقة، في منشآت البنية التحتية، في المؤسسات الحديثة، في التقنيات الإعلامية المتقدمة وأدوات التواصل الاجتماعي (الخليج الأكثر استخداماً للإنترنت عربياً)، في النقلة النوعية للخدمات والمرافق، في الاقتصادات المتطورة، في نظم التعليم والجامعات والمراكز البحثية، في أنماط الاستهلاك والعيش والملبس والمواصلات والاتصالات وأساليب الرفاهية. هذه الثروة التي هي هبة السماء للخليجيين، مكنتهم من بناء نموذج تنموي تحديثي يجتذب إليه الناس، ومكنت الخليج أن يؤدي دورا قياديا مؤثرا في محيطه الإقليمي والدولي، كما شرحه بتفصيل واف، الدكتور عبدالخالق عبدالله في "لحظة الخليج".
الحداثة: الخليج الذي نجح في تحقيق التحديث، لم يحقق الحداثة، كونها تتعلق بالجوانب الفكرية والفلسفية والثقافية والسياسية في المجتمع: في تبني العقلانية والمنهج العلمي نمطاً للتفكير والبحث، والديمقراطية نظاماً لإدارة الشأن العام، والفردانية (الفرد الحر) مفهوماً للمعيشة، والمنهج النقدي أسلوباً في التربية والتعليم، فالنقد هو القدم الثانية للتقدم والازدهار بحسب المفكر السعودي إبراهيم البليهي. الحداثة وعي فكري متقدم للإنسان والحياة والمجتمع والدولة والحضارة والعالم والكون، لا يمكن استجلابها بالمال، وإنما تزرع وتنمو في رحم المجتمع، وتنطلق كطاقة متجددة، وروح حرة تجدد كل مظاهر الحياة فيه، وتنقل المجتمع من الحالة التقليدية إلى الحالة الحداثية المتقدمة. وإذا كان التحديث يجسد نفسه في مؤسسات ونظم حديثة (هياكل) فإن الحداثة بمثابة "الروح" المحركة لها، وهي ما عجزنا عن زرعها وتنميتها في التربة المجتمعية، الدكتورة شيخة الجاسم وفقت في استجلاء هذا الجانب المظلم للقمر الخليجي، مقالتها (لحظتنا الخليجية: أكذوبة العمران والتنمية أمام مقصلة الحريات) عندما عبرت عن واقع الحريات البائس في الخليج. يختلف التحديث الأوروبي عن الخليجي، في أن الأول أحد مخاضات الحداثة التي امتدت قروناً، في حين الثاني لم يسبقه فكر حداثي، ومع ذلك أنتج تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية فريدة. لماذا لم تتحقق الحداثة الخليجية؟ نستخلص من الكتابين أن شروط الحداثة لم تتحقق لعوامل:1- أن تحولات المجتمعات لا تتبع نظاماً نمطياً واحداً، صحيح أن الخليج ينتمي إلى الاقتصاد الحديث، لكن القيم الثقافية المجتمعية مازالت تنتمي إلى ما قبل الدولة، فالسلطة (أحادية) النزعة، والانتساب إليها قائم على العصبوية. 2- هذه التحولات تواجه بقدر من الممانعة القوية من قوى مؤسساتية وأخرى اجتماعية: تأخذ لبوساً دينياً وآخر إثنيا وثالثاً قبلياً، لأن التغيير لا يغير حصصها من القوة فحسب، إنما أيضاً يهدد أسسها المعيارية. 3- التحديث جاء في ركاب المستعمر، فاعتبر تغريباً وغزوا ثقافياً مهدداً للدين والقومية، وتمت مواجهته من قبل التيارات: القومية والدينية واليسارية. ختاماً: المال الخليجي جلب التحديث، لكنه أجل حسم كثير من القضايا الخليجية العالقة، فهل يكون عاملا مساعداً في الوصول إلى حداثة خليجية؟ هذا ما يأمله الكاتبان، فالفرصة لا تزال أمامنا في استثمار العائدات لبناء حداثة دائمة، يؤدي المثقفون دوراً فاعلاً فيها، وبخاصة أن الحداثة لا تؤدي إلى إقصاء الدين، وانتهاء دوره كقوة روحية في الحياة العامة، بل هي عامل فاعل في تجديده كطاقة ملهمة في النهضة والتقدم.* كاتب قطري