لكم من الوقت تستطيع الدولة الروسية تحمّل تراجع الدعم الشعبي؟
تراجعت ثقة الشعب الروسي كثيراً بمؤسسة الرئاسة بين عامَي 2017 و2019، شأنها في ذلك، وإن بدرجة أقل، شأن ثقته بجهاز الأمن الفدرالي (FSB خلف KGB).لا تزال الثقة بالجيش كبيرة، ورغم ذلك، تبقى هذه الوكالات الثلاث، وفق الترتيب التالي: الرئاسة، والجيش، والوكالة الأمنية، المؤسسات الروسية التي تحظى بالثقة الأكبر، حسبما كشفت بيانات مسح جديد نشرته منظمة استطلاع الرأي المستقلة "ليفادا".ولكن مع دخول بوتين سنته الثانية من ولايته الرابعة وربما الأخيرة كرئيس، يكتسب السؤال "كيف ستتفاعل الدولة الروسية مع خسارة الدعم الشعبي؟" أهمية كبيرة.
بلغت الثقة بالرئيس والمؤسسة على حد سواء مستويات عالية جداً عقب ضم القرم عام 2014، لكن هذه الثقة بجزئيها تراجعت اليوم إلى معدلاتها قبل القرم، وخصوصاً بعدما زعزعها إصلاح مكروه لسن التقاعد السنة الماضية، والاقتصاد المتباطئ، وتراجع المداخيل.تبددت روح النصر التي سادت عام 2014، كان جو عام 2014 وشرعية بوتين المسلّم بها قد سمحا للحكومة الروسية بتخطي بسلاسة مشاكل محلية مثل انخفاض المداخيل، وسوء نظام الرعاية الصحية، وارتفاع كلفة الخدمات، وتدهور الإسكان.أتاحت شعبية بوتين العالية جداً للكرملين بخوض حملات الانتخابات المحلية في روسيا الكبرى بالاكتفاء بربط المرشح الذي اختاره الكرملين ببوتين: أيّد الناخبون كل مَن رأوا أنه يتمتع بدعم بوتين.لكن الرياح المؤاتية بدأت بالتبدل، ففي خريف عام 2018، أظهرت مناطق عدة أن الرابط مع بوتين ليس سحرياً وصوتت ضد مرشحي الكرملين في صناديق الاقتراع.بما أن المرشحين الآخرين ليسوا سوى مفسدين لا يُفترض انتخابهم، فقد قرر الناخبون القيام بالأمر الوحيد الذي يستطيعون فعله في انتخابات مضبوطة: عرقلتها، لذلك أقبلوا على صناديق الاقتراع وصوتوا بقوة لكل مَن حظي بفرصة لإمالة كفة الميزان ضد مرشح الكرملين.في مطلع عام 2019، دخل الروس سنتهم الخامسة على التوالي من تراجع المداخيل الحقيقية، وبدأ الجو الوطني أخيراً يعكس الواقع، فقد كانت 2013 السنة الأخيرة التي شهد فيها الروس مداخيلهم الحقيقية تنمو.كتب المحلل كيريل تريماسوف أخيراً: "المداخيل اليوم أدنى بـ11% مما كانت عليه قبل خمس سنوات".صحيح أن تأثيرات الحشد الوطني والتلاعب بوسائل الإعلام فاعلان على الأمد القصير، لكنهما لا يحققان على الأمد الطويل أي هدف غير تأخير تأثير النظرة الشعبي إلى أداء البلد الاقتصادي. يحدث التغيير حتى في روسيا، إلا أنه يتطلب وقتاً، ولم تبلغ شعبية بوتين اليوم أدنى مستوياتها.ذكر ألكسي ليفنسون، مدير الأبحاث في "ليفادا"، في مقابلة أخيرة: "يمكننا القول إن الأرقام الحالية ليست الدنيا على الإطلاق، بيد أنها الأدنى منذ ضم القرم، واستمرت شعبية بوتين في الاتساع حتى شهر يوليو عام 2018، حين ارتفعت نسبة معارضيه بقوة من 20% إلى 32%، علماً أن هذا شكّل تأثيراً مباشراً لرفع سن التقاعد".لكن الكرملين ما زال بعيداً كل البعد عن خسارته لعبه، فجلّ ما حدث أخيراً انخفاض شعبية بوتين العالية على نحو غير طبيعي للتأقلم مع الوقائع على الأرض، فما عاد بوتين محصناً ضد تحمل مسؤولية التراجع الاقتصادي الذي يحل ببلد يرأسه.صار بكل بساطة سياسياً يمكن معاقبته في محكمة الرأي العالمي، ويبدو أن الشعب الروسي أصبح يدرك ذلك اليوم، إلا أن الدرب من هذا الإدراك إلى الحل السياسي طويل وغير أكيد.لا شك أن الشعبية العالية جداً جيدة دوماً، إلا أنها لا تُعتبر شرطاً لا غنى عنه كي يواصل النظام السياسي الروسي عمله كالمعتاد، ويعكس نوع المؤسسات التي يضع فيها الروس ثقتهم (أو لا) أسباب هذا الوضع.يعمل مَن يديرون الكرملين سياسياً منذ سنوات على التقليل من شأن بعض المؤسسات والترويج لأخرى، ونتيجة لذلك باتت الأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام، والمحاكم ضعيفة.يثق نحو 52% من الأوروبيين بنظامهم القانوني والقضائي، في حين أن 28% فقط في روسيا يثقون بنظامهم القضائي، ولا يعلّق الناس في روسيا عادةً آمالهم على قاضٍ أو محامٍ أو ناشط في منظمة غير حكومية أو زعيم حزب معارض.يقوم البعض بذلك، إلا أنهم قلائل، فقد حرص الكرملين باستمرار على التخلص من كل البدائل عنه بدل أن يروّج لنموذج مثالي إيجابي. إذاً، تبقى الوكالات الثلاث، الرئاسة، والجيش، وجهاز الأمن الفدرالي، المؤسسات التي تنال أكبر ثقة من الروس، رغم تراجع الدعم الذي تحظى به الرئاسة وجهاز الأمن الفدرالي.* ماكسيم ترودوليوبوف* «موسكو تايمز»