نهاية سلام القوى العظمى... ماذا بعد؟
في عام 2010 قال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في ملاحظة حول معلم استراتيجي مهم إن «القوى العظمى تنعم بسلام واضح»، ولكن على الرغم من ذلك وإذا لم ترجع حرب القوى العظمى فإن عصر سلام القوى العظمى الراسخ قد انتهى، والعلاقات بين أقوى دول العالم تتحدد بصورة متزايدة بالتنافس العلني وحتى النزاع، ويوجد اصطدام أكثر حدة لتحقيق السلطة ودرجة أعلى من الخلاف حول القوانين والمبادئ.ومن شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية تختبر طبقة الحكم المطلق حدود ضعف القوة الأميركية، وتحاول استعادة الهيمنة الإقليمية السابقة لتلك الطبقة، ومن خلال القيام بهذا العمل فهي تعرض النظام إلى ضغط على كل الجبهات الجيوسياسية الرئيسة في وقت واحد. وتتزعم الصين هذه الموجة على الرغم من أن بكين كانت المستفيدة من النظام الاقتصادي الليبرالي الذي سمح لها بتحقيق ازدهار كبير، واعتبر قادة بكين دائماً أن هيمنة الولايات المتحدة مسألة يتعين تحملها لفترة من الزمن وليس إلى الأبد.واتبعت السياسة هذا المنطق أيضاً، وبغية خفض مركز الولايات المتحدة عمدت بكين إلى مضايقة السفن والطائرات الأميركية العاملة في المياه الدولية والمجال الجوي، كما أن وسائل الإعلام الصينية تحذر حلفاء الولايات المتحدة من أنهم قد يتعرضون لإطلاق نار إذا لم يبتعدوا عن واشنطن، وقد هاجمت الصين في الوقت نفسه مصداقية ضمانات التحالف الأميركي من خلال استخدام استراتيجيات بناء الجزر في بحر الصين الجنوبي على سبيل المثال، والمصممة لتحويل الوضع القائم الإقليمي بطرق حتى السفن الأميركية تجد صعوبة في مواجهتها، وعبر خليط من مساعدات اقتصادية وضغوط دبلوماسية تمكنت بكين من تقسيم الأجهزة الدولية مثل جمعية أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) التي سعت واشنطن من خلالها إلى حشد معارضة سياسة الصين.
وكانت الصين تعمل باستمرار على بناء قوة عسكرية مرعبة مصممة لإبقاء الولايات المتحدة خارج ذلك الجزء من العالم، وإعطاء بكين حرية الحركة والتصرف، ومع غروب شمس أميركا في منطقة آسيا، المحيط الهادئ– بحسب تقديرات قادة بكين– سيزداد نفوذ الصين.
نظام صيني إقليمي
ومن خلال مزيج من الترهيب والإغراء تسعى بكين إلى إقامة نظام مركزي صيني إقليمي في القرن الحادي والعشرين، وهي تحاول إعادة وضع نظام بيئتها الخارجية بالشكل الذي يلائم رغبتها كقوة صاعدة في فترة ما بعد الحرب الباردة. وتستخدم الصين الثروة والقوة اللتين ساعدتا النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على تطوير التحدي الأكثر رعباً طوال عقود من الزمن، وبطريقة أكثر حدة من المنافسة مع واشنطن.وقد حققت هذه الجهود نتيجة ملموسة، كما أن الإكراه الصيني الذي يقل عن الحرب قد نقل مفهوم القوة والزخم في تلك المنطقة، في حين جعلت احتمال الحرب بين الصين والولايات المتحدة نتيجة البناء الصيني العسكري أقل احتمالاً من وجهة النظر الأميركية. وقال رئيس الفلبين رودريغو ودويترتي في عام 2016 «إن أميركا خسرت» في آسيا ويتعين على مانيلا الآن إعادة تمركز نفسها على هذا الأساس، وبالمثل قام محللو مؤسسة «راند» بتقييم في سنة 2015 يقول إن «آسيا ستشهد خلال 5 إلى 15 سنة تراجعاً في حدود هيمنة الولايات المتحدة»، وقد يصل الوضع إلى تحول في الميزان يجعل التزام واشنطن إزاء شركائها مثل تايوان أو حتى الفلبين واليابان أقل موثوقية.تغير ميزان القوى
ومع تغير ميزان القوى يمكن أن تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع تخسر الحرب فيه في غرب المحيط الهادئ، أو حتى تخسر ببساطة الحرب من دون إطلاق رصاصة واحدة لأن الدول تجري حساباتها وتعمل على إرضاء بكين، وإذا شكلت الصين تحدياً كبيراً في الأجل الطويل للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة فإن ظهور منافسة بين القوى العظمى ستكون أكثر حدة في أوروبا، وبالنسبة إلى الكثير من الروس لم تكن فترة ما بعد الحرب الباردة وقتاً للانتصار والهدوء بل للضعف والمهانة والفترة التي فقدت روسيا فيها وضعها مثل قوة عظمى وعجزت عن مواجهة تجاوزات نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية، ومع استعادة لدرجة من قوتها سعت الى تأكيد سيادتها على طول محيطها واستعادة نفوذها بقدر أكبر في الخارج– وفي أغلب الأحيان من خلال اجراءات أكثر اندفاعاً من الصين.وقد عمدت موسكو مرتين إلى إذلال وتفتيت الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى ارتكبت خطيئة الميل نحو الغرب أو طردت قادة موالين لروسيا، وكانت الأولى في جورجيا والثانية في أوكرانيا. وفي نزاع أوكرانيا أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فكرة «العالم الروسي» التي تقضي بهيمنة موسكو على الدول المحيطة بروسيا، ومن أجل تعزيز هذا المشروع عملت موسكو أيضاً على إضعاف المؤسسات التي تحافظ على الأمن الأوروبي، وقد سعت الى تقويض حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي عن طريق الهجمات السيبرانية والترهيب العسكري والتخريب شبه الحربي وتقديم الدعم المالي لرجال السياسة المناوئين للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ونشر أخبار زائفة وأشكال أخرى من التدخل في العمليات السياسية الأوروبية والأميركية. وفي عام 2016 يقال إن عملاء استخبارات من الروس حاولوا إطاحة حكومة مونتنيغرو من أجل منعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وذلك في جهد فاشل بدم بارد يشكل منافسة مع الغرب، وفي عام 2013 وصف رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف ذلك التكتيك بـ»حرب الجيل الجديد». ويصف ذلك القول خليطاً من المبادرات العسكرية وشبه العسكرية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، وتهدف إلى نشر النزاعات والاضطرابات ضمن حدود دولة العدو أو الائتلاف، كما تعكس الطبيعة القاتلة للصراع الذي يعتقد القادة الروس أنهم سينخرطون فيه.أنهت روسيا بشكل أساسي نظام أوروبا السلمي الذي تشكل بعد الحرب الباردة وجعلت العدوان أداة لسياستها الإقليمية، كما أظهرت قيادتها ميلاً نحو خوض المغامرة أثار قلق المراقبين الأجانب بصورة متكررة وتبنت استراتيجيات جريئة وبناءة تهدف إلى إحداث تفرقة بين الغربيين، ودعا القادة الروس صراحة إلى «ظهور نظام ما بعد الغرب دولي»، مما ترك القليل من الشك في قناعتهم بقبول أي نظام دولي ليبرالي يعتمد على سيادة الولايات المتحدة.وأخيراً عادت مراجعة المسار الجيوسياسي الى الحياة وبشكل جيد في الشرق الأوسط. وإيران التي شكلت تلك المراجعة ليست ضمن المجموعة السياسية نفسها مثل الصين أو حتى روسيا، ولكن تلك حضارة فخار لم تقبل قط نظاماً شرق أوسطي بقيادة واشنطن، كما أنها دولة ثورية سعت منذ زمن بعيد الى تصدير العقيدة والنفوذ، وفي خضم فراغ السلطة الإقليمية التي تكونت أولاً عبر الغزو الأميركي للعراق ثم الربيع العربي حققت إيران خطوتها نحو السيادة.وتشمل منافسة إحياء القوة العظمى توترات دولية أشد عرفها العالم طوال سنوات مع إحياء سباق التسلح ومشاكل الأمن، كما تشمل نزاعات أكثر حدة تتعلق بالقوانين الدولية حول طرق تراوح بين حرية الملاحة وعدم شرعية تغيير الحدود بالقوة، وتعزيز المنافسة حول دول تشمل دولاً متنافسة في مناطق المصلحة. ويتطلب الأمر مواجهة احتمالات يمكن أن تحول التوازنات الإقليمية الملائمة التي أبرزت النظام الذي تقوده الولايات المتحدة طوال عقود من الزمن حول خلق مناطق نفوذ منافسة تستثني أميركا والأفكار الليبرالية التي دعت اليها. وفي نهاية المطاف يستدعي ذلك الاعتراف بأن منافسة القوة العظمى ستفضي إلى حرب القوة العظمى، وهو احتمال بدا أنه يتبع نهاية الإمبراطورية السوفياتية.