كيف نتعلم الذي يجب ألا نتعلمه؟
كانت أمسية ذات ذائقة ممتعة ومختلفة في ملتقى بيت الصديق طالب الرفاعي بمناسبة وجود الروائية صاحبة محترف الرواية نجوى بركات، التي تعرفت عليها لأول مرة بهذه الجلسة الحميمة.نجوى بركات هي أخت الروائية هدى بركات، والتبس عليّ طوال الوقت موضوع رواياتهما، كنت أظن أني قد قرأت أغلب ما كتبته نجوى، وإذ بي أكتشف أني لم أقرأ لها أي شيء، وكل ما قرأته كان لأختها هدى، وهذا ما عرفته بعد سماع عناوين أسماء رواياتها، ولا أدري ما مدى نقاط الاختلاف والتشابه فيما بينهما، وهذا ما سأكتشفه وأتعرف عليه بعد قراءة رواياتها.نجوى، وفق ما عرّفت روايتها وبينت لنا اشتغالاتها عليها، أوضحت أنها تشتغل على العنف الداخلي للشخصية الإنسانية العربية واللبنانية بالخصوص، العنف الذي استشفته قبل زمنه بأزمان، وقصدت به ما تلا الحرب اللبنانية وكل التغيرات اللاحقة التي تعرّض لها الوطن العربي بالذات، وما نتج عنها من تغيير شامل في إنسانية مواطنيه وأحوالهم وأخلاقهم وتعاملاتهم النفسية السيكولوجية.
فسرت توجهها للكتابة عن العنف الذي تلا كتاباتها وحدث بالفعل، أن الكاتب ربما يملك مفاتيح الشفافية ومجسات سابقة لوقتها، ربما هي قرون استشعار الحوادث قبل وقوعها، وهو ما انطبق وماثل استشعاراتها المبكرة لما تلا ذلك من كوارث الحروب والإرهاب.كان عنوان الجلسة يدور حول محترف نجوى للكتابة الروائية هو محور الحديث، الأمر الذي كانت الأغلبية ترغب في معرفته وتبيانه، وربما كنت الوحيدة التي لا تؤمن بفكرة قيام محترفات أو ورشات لتعليم أصول الكتابة الروائية، أو التدرب عليها، أو المساعدة والإرشاد في تأسيسها وبنائها، وقد كثرت ورشات التدريب على الكتابة الروائية ليس فقط في الوطن العربي، بل هي تشكّل ظاهرة عالمية، وإن كانت في بريطانيا وأوروبا ليست تعليمية بقدر ما هي إعادة تنظيم وتصحيح للرواية. وكان سؤالي لها هو كيف نُعلم الكاتب ما هو ليس من المفروض تعلّمه، لأن تعلمه يفسده، فأجمل ما في الكتابة الروائية هو الشعور بطزاجة اللعبة وجمال دهاليزها المجهولة وسرانيتها الغامضة التي تتفتح برعم وراء برعم من تلقاء ذاتها، فهي التي تمنح الكاتب ذاتها وخصوصيتها وتقنياتها كلما غاص فيها وجرى خلفها أكثر وأكثر في مطاردتها، وكشف أسرار ألعابها التي هي متعة خالصة وبهجة شغف وإثارة روحية ونفسية وعقلية وحتى جسدية.كيف نلغي كل هذا السحر الخفي الذي يجب أن نطارده ونسعى وراء خفاياه حتى ندركها ونحيا فيها ونرويها، وهذا هو أساس الشغف والمرور بمتعة اكتشاف اللعبة الجديدة ليست المعروفة والمتعلمة أو عن طريق مكشوف ومعروف من قبل معلم أو مرشد، التعليم يُفسد جمال مجهولية اللعبة التي يجب أن تبقى طوال الوقت لعبة، ويجب أن يُكسر قالبها كلما انتهت، لنبدأ في اكتشاف لعبة جديدة مع كل عمل روائي جديد. التعليم والتدريب في ورش يقتل هذه الروح الفضولية الخلاقة الباحثة عن الخلق الجديد المخالف للمتقدم إلى الأمام وليس المراهن على المكرس والماضي في قوالبه المعرفية الجاهزة، حتى لو كان الهدف من تعليم الكتابة الروائية في الورش هو ضبط وترتيب الأحداث أو الزمان والمكان والشخصيات، ومساعدة الكاتب على فهمها وضبطها، وتدريبه على طريقة كتابتها، حتى مع هذه الحالة أراها تقتل الإبداع التلقائي الجديد الخارج عن أي مفاهيم وأساليب سابقة، وربما تكون هذه الكتابة البدائية هي الأروع والأكثر جدة وطزاجة غير المتوقعة.لا أؤمن بتعلّم أسس للكتابة الروائية التي ترفض الحجر والتقيد في قوالب وأساليب جاهزة، العمل الإبداعي فيها منفلت لا يخضع لأي قوانين جامدة، فلا الزمن ثابت ولا المكان متحجر ولا الشخصيات مجمدة، لا شيء مقبوض عليه في العمل الروائي، كل ما فيه قابل للتغير والتشظية والهدم وإعادة التشكيل وتقديم إبداع لا يشبه قديمه ولا جديده، هو روح أتت وولدت من لعبة جديدة ليست لها قواعد وقوانين ثابتة، هي آتية من مستقبلها وذاهبة لمستقبلها وماضيها كسرت قالبه. توقفت عند رد نجوى أنه في العمل مع الكتاب تختلط مصارينها بمصارينهم، وهذا يعني أنها تشاركهم الكتابة، أو بمعنى أصح تقودهم بأفكارها وتجربتها الناضجة عنهم في السير بالعملية السردية التي فيها الكثير من عقل وفكر وروح نجوى ذاتها.