الشعبويون يتصارعون في كلا الحزبين
أطلق نائب الرئيس السابق ديك تشيني الدعابة الأشد قساوة التي قد يذكرها جمهوري عن سياسة ترامب الخارجية حين قال إنها "تبدو أقرب إلى أوباما منها إلى رونالد ريغان".من الواضح أن هذه المقارنة غير دقيقة، ولكن يمكننا أن نؤكد أن تشيني أحد الجمهوريين القلائل الذين لا يخشون ترامب هذه الأيام، فقد أدلى تشيني بسلسلة من التعليقات الجارحة المماثلة خلال محادثة كان يُفترض ألا تكون للنشر مع نائب الرئيس بنس خلال لقاء في "سي آيلند" بجورجيا قبل أيام نظمه معهد المشروع الأميركي (American Enterprise Institute).تكشف لنا تعليقات تشيني أننا نشهد اليوم ما قد يشكّل عملية إعادة اصطفاف سياسية في الولايات المتحدة لم يعد معها بعض تصنيفاتنا السياسية صالحاً، فثمة جناح شعبوي في كلا الحزبين مع تعبير ترامب وبعض الديمقراطيين التقدميين عن مخاوف متشابهة عموماً بشأن الإفراط في توسع الولايات المتحدة في العالم وعدم إنصاف النظام العالمي القائم.
ثمة جناح تقليدي أيضاً في كلا الحزبين يدعم النظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدة "التشينية" وشبكات تحالفاته واتفاقاته التجارية، وقد تجسدت هذه المقاربة التقليدية بالدعوة المشتركة التي وجهتها قبل أيام رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بلوزي وزعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إلى أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ للمشاركة في جلسة مشتركة للكونغرس. لا شك أن الاختلاف شاسع بين نسخة الرجل الغني المتنمرة التي يقدمها ترامب عن الشعبوية ونسخة سيناتور فيرمونت بيرني ساندرز التقدمية المتعاطفة. وعلى نحو مماثل، تبدو نسخة بلوزي من "الدولية" أقل تشدداً وتوجهاً نحو الدفاع مما يتبناه ماكونيل، لكن عالم السياسة يبدو محيراً اليوم لأن تصنيفات اليسار المعتادة لا تنطبق عليه دوماً، فهل التجارة الحرة ليبرالية أم متحفظة؟ وماذا عن "الدولية" أو حماية الخصوصية؟لطالما كانت السياسات الأميركية تتأثر بالشخصيات أكثر من تأثرها بالعقائد، وعندما نفكر في الحقب نلاحظ أنها تتبع عادةً رؤساء، فقد مثّل جورج واشنطن حقبة الفدرالية، في حين جسد أندرو جاكسون هجوم الحزب الديمقراطي القوي على النخب، كذلك أنشأ أبراهام لنكولن الحزب الجمهوري العصري خلال الحرب الأهلية ليعيد ثيودور روزفلت صوغه في الحقبة التقدمية، أما فرانكلن روزفلت فأنشأ ائتلافاً ديمقراطياً جديداً وأسس ريغان ائتلافاً جمهورياً جديداً.ولكن هل يُعتبر ترامب شخصية انتقالية مماثلة؟ أشك في ذلك، فيبدو أقرب إلى رمز للفوضى السياسية الراهنة التي نعيشها لا مهندس اصطفاف سياسي جديد، إلا أنه يمثل علامة تنبئ بالتغيير في نظامنا الحزبي. قاد ترامب إحدى حركات التمرد الأكثر نجاحاً في عالم السياسة الأميركي، فقد دمّر المؤسسة الجمهورية القائمة، مطيحاً بالمجموعة الجمهورية من المرشحين الرئاسيين في عام 2016، وقدّم ترامب أداء تمييزياً غريباً، لكنه أنه أشعل حماسة الحضور. على غرار الجمهوريين يخشى الديمقراطيون اليوم حزباً قاعدته في حالة اضطراب، ومن الأمثلة على ذلك حاكم كولورادو السابق جون هيكنلوبر، مقاول سابق أسس قاعدة من الحزبين في ولايته، فهو يشكّل مثال الديمقراطي العصري إلا أنه بدا متناقضاً قبل أيام خلال برنامج Morning Joe على قناة MSNBC عندما سأله المقدّم جو سكاربورو عما إذا كان "اشتراكياً" أو "رأسمالياً"، وأثناء مشاهدة رده بدا لي أن الديمقراطيين يخشون الإساءة إلى داعمي ساندرز بقدر ما يخاف الجمهوريون معارضة ترامب. ربما يتمتع ساندرز بالحماسة والجاذبية التقدمية الكافيتين ليجعل من "الاشتراكية الديمقراطية" استراتيجية رابحة في عام 2020، ولا شك أنه يحظى بشعبية كبيرة في القاعدة الديمقراطية، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أنه يحقق تقدماً متواصلاً خلال الشهرين الماضيين، في حين يراوح معظم المرشحين الآخرين مكانهم.لكنني سأفاجأ كثيراً إذا نجح ساندرز في بلوغ البيت الأبيض، لأن الديمقراطي الذي يستطيع هزيمة ترامب يجب أن يتحلى بشخصية بارزة ومطمئنة أيضاً، وأن يحظى بدعم ديمقراطيي الطبقة العاملة، ويثير حماسة الناخبين الشبان. يشمل مَن يستوفون الشروط السابقة (في خريطتي الذهنية على الأقل) السيناتور مايكل بينيت، والسيناتورة كامالا هاريس، والسيناتورة إيمي كلوبوشار، والنائب سيث مولتون، والنائب السابق بيتو أورورك.تشبه الأنظمة السياسية النظريات العلمية، فيظهر فيها أحياناً الكثير من العناصر الشاذة التي لا تلائم البنية القائمة، فتنهار النظرية وتولد نظرية أخرى، مما يعني في العلوم أن نظرية أن "الشمس تدور حول الأرض" تفقد ما يعللها، وأن الأدلة تبرهن صحة العكس، أما في السياسة فتتشكل أحزاب جديدة أو تكتسب الأحزاب القائمة هوية جديدة. ندخل على الأرجح مرحلة مماثلة، وقد ترتكز صيغة الديمقراطي الفائز على أن يقدّم، في وجه مهرجان ترامب الصاخب القائم على تبجيل الذات، نظاماً سياسياً جديداً متماسكاً بصدق.* ديفيد إغناتيوس*«واشنطن بوست»