أفرزت أزمة توظيف مجموعة مهندسي البترول في القطاع النفطي، الأسبوع الماضي، عدداً من الإشارات السلبية عن واقع سوق العمل وآليات المعالجة.فالأمر لم يرتبط بكليات تقدم في العادة فوائض من الخريجين مقارنة باحتياجات سوق العمل، كالتربية أو الآداب أو الشريعة أو العلوم الاجتماعية، بل امتد إلى التخصص الأكثر ارتباطاً بثروة الكويت الطبيعية، وهي النفط، مما يعكس من ناحية اختلالاً في سياسات القبول بجامعة الكويت والابتعاث الخارجي من جهة عدم الارتباط مع الاحتياجات الفعلية، ويبين من ناحية أخرى محدودية المشاريع التي ينفذها القطاع النفطي بسبب طغيان عقود المقاولين على أعمال الشركات النفطية الحكومية بشكل يؤثر سلباً على مهنية القطاع وتكاليف تشغيله وارتباط شركاته إلى حد بعيد بعمليات الحفر والإنتاج في وقت تطور شركات نفطية عديدة في منطقة الخليج وخارجها أعمالها ومشاريعها بما ينوع من منتجاتها ويوفر فرص عمل للشباب فيها.
معالجات وضغوط
والأسوأ من انحراف مخارج التعليم عن احتياجات سوق العمل يتمثل في طريقة معالجة الأزمة عبر اتخاذ مؤسسة البترول «إبرة بنج « بقرار قبول جميع الناجحين في اختبارات التوظيف بغض النظر عن الاحتياج الفعلي، إذ قبلت المؤسسة 130 مهندساً مقارنة بـ 100 احتياج، وهنا سوء المعالجة يتضح من زاوية تكرار آليات الحلول لدى القطاع النفطي القائمة على إرضاء الجميع، والتي تجلت سابقاً في حل خلافات تعيين أعضاء مجلس إدارة المؤسسة عبر رفع عددهم لاستيعاب جميع المتنازعين، والأكثر أهمية هنا أن آلية المعالجة لا تقدم أي نموذج للحل من أهم مؤسسات الدولة حال تكرار الأمر مع قطاعات ومؤسسات أخرى يتوقع أن تعاني في السنوات المقبلة ضغوطاً هائلة في عمليات التوظيف.سوق العمل
وحسب بيانات القطاع النفطي حتى نهاية عام 2018، فإن عدد المهندسين العاملين في شركات القطاع بلغ 3070 مهندساً، ثلثهم من مهندسي البترول، ومثلهم للهندسة الميكانيكية، والبقية في فروع الهندسة الأخرى الكهربائية والإلكترونية والمدنية والحاسب الآلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تخصصي البترول و»الميكانيكية» تجاوزا منذ عام 2016 الاحتياج الفعلي للعمليات الخاصة بالشركات التابعة، وهو مؤشر لا يعطي تصوراً فقط عن أحوال القطاع النفطي، بل يلقي بنظرة عامة عن مستقبل سوق العمل المحلي.أرقام وفجوة
اليوم يصل الطلب على سوق العمل الكويتي ما بين 20 و22 ألف وظيفة سنوياً توفر الدولة معظمها، مع توقع بلوغ هذا الرقم بحلول 2030 إلى 74 ألف وظيفة أي بمعدل 3.5 أضعاف الحالي، في وقت تزداد الفجوة بين الاحتياجات المطلوبة دون أن تلبيها مخرجات التعليم، وبين نظيرتها التي تعاني فائضا في التغطية وتنتظر المزيد من الخريجين سنويا. فلا مجال للمقارنة بين الاحتياجات والفوائض، فسوق العمل الذي يحتاج حالياً إلى تخصصات التمريض والحاسوب والكهرباء والفيزياء الطبية والإلكترونيات وعلوم البحار بنسب تصل إلى 90 في المئة يواجه الآلاف من خريجي الكليات النظرية بفوائض تصل إلى 600 في المئة، فضلاً عن أن نسبة الاحتياج للتخصص المرتبط بالقطاع الخاص مثلا، وهو العلوم الإدارية، تبلغ 60 في المئة!فالفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل باتت واضحة، لدرجة أن الضغط صار يتركز في السنوات الأخيرة على أقل التخصصات ارتباطاً بسوق العمل، وسط تراجع الطلب على التخصصات التي يحتاج إليها السوق، وخصوصاً تلك العلمية أو المالية، مقابل نمو لافت للتخصصات الأدبية.في الكويت خطط التنمية تتحدث عن المشاريع والإنشاءات، أما التعليم وتغيير فلسفته لربطه بسوق العمل فلا يحظى بكثير من الاهتمام، حتى سوق العمل بات فقيراً بالمشاريع والفرص النوعية الجديدة، رغم أن النسب تشير إلى أن المجتمع معظمه من فئة الشباب، مما يعني أن المستقبل كله لمن هم في المراحل التعليمية، وبالتالي فإن أي حديث عن التنمية لا يكون صغار السن أساسه من حيث التعليم أولاً، وما يرتبط بسوق العمل ثانياً، لن يكون مجدياً، لأن المليارات التي تبني المستشفيات والمدن لا قيمة تنموية لها ما لم ترتبط بتطوير البشر، ولذا فالحديث عن دولة غنية مالياً بنظام تعليمي متخلف لا يلبي حاجة السوق العمل، يظهر لنا جانباً مهماً من تحدي المستقبل.طبقية التعليم
لا شك أن التراجع في مستوى التعليم مقارنة بما يتم إنفاقه من أموال يجعلنا في السنوات القادمة أمام خطر «طبقية التعليم» بين مخرجات جيدة إلى ممتازة من التعليم الخاص تقابلها مخرجات جيدة إلى ضعيفة في التعليم العام الحكومي، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي، ويجعل هناك نوعاً من التمايز في سياسات التوظيف، وبالتالي حصول حالة من البطالة، وخصوصاً عندما تتعثر الدولة في توفير الوظائف وفقاً للأسلوب الحالي.عندما نعلم أن إجمالي عدد طلبة المدارس والجامعات والمعاهد التطبيقية في الكويت تجاوز 550 ألفاً، فإن التساؤل لابد أن يكون: كيف يمكن لدولة تعتمد على مورد النفط بشكل لافت في السنوات الأخيرة أن تتعامل بنفس وتيرة التوظيف المتصاعد مع مخاطر لا تتعلق مثلاً بنضوب النفط أو اكتشاف مورد بديل عالمياً بل فقط بتراجع النمو الاقتصادي العالمي أو الآثار السلبية للنزاعات العالمية كالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟