وسم الثامن عشر من مارس الذكرى الخامسة لضم روسيا القرم بطريقة غير مشروعة، مما شكّل عملية الاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ففي حين يشغل الصراع المعتمل في الدونباس عناوين الأخبار، من الممكن رؤية مسار إلى الحل هناك، لكن الوضع أكثر تعقيداً في القرم، التي ستبقى موضع خلاف بين كييف وموسكو والغرب وروسيا لسنوات إن لم نقل عقوداً.
في شهر فبراير عام 2014، بعد أيام قليلة من انتهاء ثورة الميدان وهروب فيكتور يانوكوفيتش من كييف، بدأ "رجال خضر صغار" (مصطلح صاغه الأوكرانيون) بالاستيلاء على منشآت في شبه جزيرة القرم، ومن الواضح أن الرجال الخضر الصغار كانوا جنوداً محترفين من طريقة سلوكهم، فضلاً عن أنهم حملوا أسلحة روسية وارتدوا زي قتال روسياً، إلا أنهم لم يضعوا أي شعار أو إشارة تحدد هويتهم. أنكر بوتين بادئ الأمر أنهم كانوا جنوداً روساً، غير أنه عاد في أبريل من تلك السنة وأكد ذلك.في مستهل شهر مارس، كان الجيش الروسي قد سيطر على القرم، ثم اقترحت سلطات القرم إجراء استفتاء عُقد في السادس عشر من مارس، ولكن اتضح أنه خدعة غير مشروعة وذلك لأن هذا الاستفتاء يُعتبر مخالفاً للقانون الأوكراني، فضلاً عن ذلك قدّم للمصوتين خيارين: الانضمام إلى روسيا أو العودة إلى دستور القرم لعام 1992 الذي يمنح شبه الجزيرة استقلالاً ذاتياً أكبر عن كييف، لذلك لم يستطع مَن يفضل من سكان القرم بقاء شبه الجزيرة جزءاً من أوكرانيا بموجب الاتفاقات الدستورية الحالية سبيلاً إلى التعبير عن رأيه. لا عجب في أن يؤدي الاستفتاء إلى نتيجة على الطراز السوفياتي: صوّت 97%، حسبما زُعم، للانضمام إلى روسيا مع إقبال على صناديق الاقتراع بلغ 83%، ولو كان هذا استفتاء حقيقياً وأُجري بطريقة نزيهة لأظهر على الأرجح أن عدداً كبيراً من المصوتين في القرم يفضلون الانضمام إلى روسيا، إذ ينتمي نحو 60% منهم إلى الإثنية الروسية وكان كثيرون منهم سيستخلصون على الأرجح أن وضعهم الاقتصادي سيكون أفضل لو أصبحوا جزءاً من روسيا. لكنه لم يكن استفتاء نزيهاً، بل أُجري في أماكن اقتراع خضعت لحراسة مسلحة من دون أي مراقبة دولية عالية المصداقية، ومع إفادة الصحافيين الروس أنه سُمح لهم بالتصويت، وبعد شهرين كشف عضو في مجلس حقوق الإنسان التابع لبوتين في زلة لسان أن الإقبال على صناديق الاقتراع بلغ 30% تقريباً مع تصويت نصفهم فحسب للانضمام إلى روسيا.رغم ذلك لم تضيّع موسكو أي وقت، فقد وقّع المسؤولون في القرم وروسيا "معاهدة انضمام" بعد يومين في الثامن عشر من مارس، وبعد خطاب ناري من بوتين، انتهى التصديق على هذه المعاهدة التي حملت ختم الجمعية الاتحادية ومجلس الاتحاد في روسيا في الحادي والعشرين من مارس.محاولات التبريرانتهكت موسكو بخطواتها هذه الاتفاق الذي وُقّع بين موسكو ودول ما بعد الحقبة السوفياتية في عام 1991، والذي نص على احترام حدود الجمهوريات القائمة آنذاك. كذلك شكّلت أعمالها هذه خرقاً لالتزاماتها باحترام سيادة أوكرانيا، ووحدة أراضيها، واستقلالها التي تعهدت روسيا بها في مذكرة بودابست للضمانات الأمنية بشأن أوكرانيا ومعاهدة الصداقة والتعاون والشراكة بين أوكرانيا وروسيا لعام 1997.في أواخر شهر مارس عام 2014، اضطرت روسيا إلى استخدام حق النقض (الفيتو) لعرقلة قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعبّر، من بين مسائل عدة، عن دعمه لسلامة الأراضي الأوكرانية (صوتت 13 دولة إيجاباً فيما امتنعت واحدة عن التصويت). لكن روسيا تعجز عن اللجوء إلى حق النقض لوقف قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد مُرر قرار مماثل بتأييد 100 دولة مقابل 11، مؤكداً دعم سلامة الأراضي الأوكرانية ومعتبراً استفتاء القرم باطلاً.سعى المسؤولون الروس إلى تبرير الاستفتاء معتبرين إياه خطوة تتيح لسكان القرم تحديد مصيرهم بأنفسهم، ولكن صعُب على الكرملين دعم حجة مماثلة نظراً إلى تاريخ الحربين الدمويتين اللتين شنتهما روسيا في تسعينيات القرن الماضي ومطلع العقد الأول من الألفية الجديدة بغية منع الشيشان من ممارسة حق تقرير المصير هذا.علاوة على ذلك، أثارت السيطرة العسكرية على القرم موجة من الانتقادات، لكن التوصل إلى تسوية في الدونباس اعتُبر مسألة أكثر إلحاحاً من حل وضع القرم، وهذا طبيعي نظراً إلى أن نحو 13 ألفاً ماتوا ومليونين هُجروا بسبب القتال الدائر في شرق أوكرانيا. ويبدو أن موسكو ترى في الصراع المعتمل أداة مفيدة للضغط على كييف وإلهائها، وذلك بهدف وضع العراقيل أمام إنجازها الإصلاحات المؤسساتية الداخلية والحؤول دون تعمّق الروابط بين أوكرانيا وأوروبا. لا شك أن حل مشكلة الدونباس لن تكون مهمة سهلة، كذلك لن تتخلى موسكو طوعاً عن القرم، إذ يؤكد الروس حقهم التاريخي في شبه الجزيرة هذه، فقد ضمت كاثرين العظيمة القرم في عام 1783 بعد حرب بين روسيا والسلطنة العثمانية، ويُعتبر الاحتفاظ بالقرم مسألة مهمة جداً بالنسبة إلى بوتين، الذي لا يستطيع أن يقدم للشعب الروسي اليوم أي رؤية حقيقية غير الاقتصاد المتباطئ، لذلك يلعب بورقتَي القومية وروسيا الدولة العظمى، حيث حقق بوتين زيادة كبيرة في شعبيته (علماً أن الجزء الأكبر منها تبدد اليوم) من جراء استيلائه السريع على شبه الجزيرة الخالي نسبياً من إراقة الدماء، وعلاوة على ذلك يشكّل ضم القرم وسيلة تتيح لروسيا الاستمرار في خلاف متواصل على الحدود مع أوكرانيا يظن الكرملين على الأرجح أنه قد يثني أعضاء حلف شمال الأطلسي عن الاقتراب كثيراً من هذه الدولة.تفتقر كييف اليوم إلى النفوذ السياسي، والاقتصادي، والعسكري لتستعيد القرم عنوةً. لذلك تبقى الوسيلة الأكثر احتمالاً أن تعمل أوكرانيا على النهوض باقتصادها، ومحاربة الفساد بقوة، وجذب فيض من الاستثمارات الأجنبية، وتحقيق قدراتها الاقتصادية بالكامل، ومن ثم ترك شعب القرم، الذي لم يختبر أي ازدهار اقتصادي كبير بعد انضمامه إلى روسيا، ليستنتج أن فرصه الاقتصادية ستكون أفضل إذا عاد إلى أوكرانيا.بالنسبة إلى الغرب، يمثل استيلاء روسيا على القرم وضمها تحدياً كبيراً لنظام أوروبا وأعرافها اللذين أرستهما وثيقة هلسنكي الختامية عام 1975، لذلك على الولايات المتحدة وأوروبا أن تستمرا في سياسة عدم الاعتراف بضم القرم غير المشروع، كذلك ينبغي لهما المضي قدماً في العقوبات التي فرضتاها على روسيا بسبب القرم لتؤكدا على الأقل أن عمليات الاستيلاء على الأراضي هذه لا مكان لها في أوروبا في القرن الحادي والعشرين.* «ستيفن بيفر»
مقالات
قضية القرم لن تُحَل لسنوات
21-03-2019