الذين ما زالوا على مواقفهم من الأساليب الفنية الحديثة في الفن التشكيلي بعد ثباتها وما انبثق عنها من مدارس واكتشافات جعلت منها سمة عصر، وكذلك قيامها بدورها الإنساني، نستحضر لهم ما قاله عبقري القرن العشرين "بيكاسو": أنا لا أرسم ما أرى بل أرسم ما أعرف!ماذا يعني هذا؟ يعني أن هذه المدارس الفنية ترتكز على علم ومعرفة ووعي بما يدور حول الفنان والمبدع، وهو يستقي منها إبداعه بصيغ جديدة تناسب الوقت والزمن، وقد اكتسبت أسماءها بحضورها الطاغي والمؤثر! فعلى سبيل المثال حين أراد الفنان "هنري ماتيس" ورفاقه أن يعيدوا إلى المدرسة الانطباعية الأولى مجدها، فقد خُصص له وجماعته في عام 1905 صالة في معرض الخريف في باريس، عرضت فيها لوحاتهم، ومن هذه الصالة خرجت تسمية أسلوبهم الذي أُلصق بهم وهو اسم "الوحشية".
ذلك أن الناقد الفني لويس فوكسل L.Vauxcelles حين رأى لوحاتهم تحيط بتمثال لطفل من البرونز للنحات "ألبير مارك" أطلق مقولته المشهورة "هذا دوناتلّو في قفص الوحوش"، لكنه لم يكن ساخرا بقدر دهشته مما رأى من جديد.ولا نظن أن عباقرة الأدب والفنون الذين أسسوا مدارس فنية في عالم جديد سمته التطور والاكتشاف كانوا يحقرون الأساليب القديمة أو ممن هاجموا هذه الأساليب التي بشرت بالحداثة مثل التجريدية والوحشية أو التكعيبية أو السيريالية، ووقفوا منها مواقف استهجان، وظنوا أن هؤلاء الفنانين المجددين قد انحرفوا عن جادة المدارس التقليدية، ولا بد أنهم فاشلون!! والدليل هو ثبات هذه المدارس والأساليب الفنية.العباقرة لا يسخرون، إنما يعملون وينبشون في سر الإبداع عن وعي لما يدور في الحياة من أحداث، وما بها من جمال، ويأخذون بمضامينها ليصوغوا لغة تشكيلية تناسب زمانهم. الذين ما زالوا على موقفهم المعادي لهذه المدارس والأساليب لا شك أنهم في حاجة إلى "تثقيف" فني وفهم لما يبدعه الفنانون، وهذا يعني أن التقصير منهم، وليس ذنب المبدعين أن يبقوا دون حراك لما يجري من حولهم ولا يلاحقونه بالاكتشافات. هم لم يحاولوا إنما اكتفوا بالاستمتاع بجمال ما ألفته عيونهم وما هو قريب من وعيهم، وهذا ما قامت به آلة التصوير الفوتوغرافي حين اكتشافها لتفتح الباب أمام الفنانين للبحث والتجديد.إن طول الفترة الزمنية التي فصلتنا عن حضارتنا التي أبدعت فنونا رفيعة مازالت شاهدة على وعي وفهم من سبقنا، وتراكم التقصير في حق الفن التشكيلي حديثا وإهمال مكانه الصحيح ضمن أولويات المناهج الدراسية والتربوية ووسائل الإعلام وخفض قيمته اجتماعيا، قد أصاب وجدان الفرد بالعجز عن فهم ما تراه عينه وعجز عن استيعاب معانيه وفلسفته، وفي حين ولج الآخرون العصر الحديث برؤية معاصرة مازالت تثري الحركة التشكيلية العالمية كان لفنون الشرق نصيب في تأسيسها حين أخذوا عنها. أين نحن من هذه الحركة المتسارعة في عالم الفن التشكيلي؟لا شك أن فيها نصيبا لبعض فنانينا، في وقت استشرت ظاهرة أخرى غريبة ومناقضة للوعي الفني السليم بمسميات خاوية المضمون يعجز الشباب من الفنانين عن فهم أسرارها، وهم يظنون أن هذه المسميات قد تفتح لهم بابا يحقق بعضا من طموحاتهم، وهي في الأصل مسميات لمشاريع تجارية الغرض منها مادي لمصلحة القائمين عليها! من الممكن أن يأخذ هؤلاء الشباب فرصتهم الحقيقية حين تنضبط الحركة تحت سيطرة كاملة للقائمين على تبني المشروع الفني وتوجههم الوجهة السليمة.دائما سيبقى الإبداع في حاجة إلى من يرسم له الوجهة السليمة لأنه جزء من وجدان الأمم التي لا يمكن أن تعيش بدونه، فهو يحقق لها توازنها مع إيقاع الحياة، الذي تستمد منه قوة نهضتها ومتانة بنائها.* كاتب فلسطيني- كندا
مقالات - اضافات
الفن علم ومعرفة!!
22-03-2019