حرب الروايات
لفت نظري خلال متابعتي للأحداث الجارية في الجزائر والكفاح الشعبي الذي يتصاعد فيها للمطالبة بالديمقراطية جهل الأجيال الشابة باسم بطلة الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد، بل سمعت أشخاصا يتندرون على هذه المرأة المسنة، التي لم يعرفوا تاريخها، وهي تشارك في المسيرات الشعبية الجزائرية.وهذه الأجيال لا تُلام على عدم معرفتها بقدر ما يجب أن يُلام المسؤولون عن نشر وكتابة الثقافة، والتاريخ، ومناهج التعليم.أكتب عن ذلك لأنني لمست الخطر الداهم على ثقافتنا الوطنية والسياسية من تسرب الرواية الإسرائيلية إليها، وإلى مصطلحاتها، وهي رواية يحاول المروجون لها بإصرار ومثابرة، جعلها مقنعة، مكررة، متداولة، بحيث تحل محل الرواية الحقيقية والموضوعية للأحداث، ولا يوجد وفد دولي أو أجنبي نلتقي به، إلا وتعرض أو تأثر بالرواية الإسرائيلية.
وسأعرض بإيجاز بعض الأمثلة التي يجري الترويج لها، في إطار حرب الروايات التي تشنها المنظومة الصهيونية: المفهوم الأول الذي يجري الترويج له، أن الأمن المهدد هو الأمن الإسرائيلي، وأن الفلسطينيين يشكلون خطرا على أمن الإسرائيليين، ويُستخدم الأمن كمبرر أولي وأساسي لكل خروقات حقوق الإنسان التي تمارسها المؤسسات الإسرائيلية، ولإجراءات منظومة الأبارتهايد ببناء جدار الفصل والتمييز العنصري، وفصل الطرق والحواجز وحصار غزة، ومنع الفلسطينيين من حرية الحركة أو الوصول إلى القدس وإلزام الجانب الفلسطيني بالتنسيق الأمني. ولا تتجاهل الرواية الإسرائيلية أن الفلسطينيين بحاجة للأمن فقط، بل تخفي بإمعان معانانهم بسبب التهجير والاحتلال من فقدان كامل للأمن الشخصي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بل إن حياة كل واحد منهم مهددة في كل لحظة بسبب ما يمنحه الاحتلال لجنوده من شرعية لقتل الفلسطينيين، وإعدامهم ميدانيا، كما حدث في الأسبوع الماضي لأربعة شهداء.المفهوم الثاني الذي أصبح سائدا في الرواية الإسرائيلية أنه لا يوجد احتلال، وقد تدرجت الرواية الإسرائيلية عبر العقود من ادعاء أن الضفة والقدس وغزة والجولان ليست أراضي محتلة، بل هي أراض متنازع عليها، إلى القول إنها أراضي دولة إسرائيل التي تتكرم بالسماح للفلسطينيين بالبقاء فيها.ولا يعبأ الإسرائيليون بأن روايتهم تناقض القانون الدولي وقرارات لا تُعد ولا تحصى للأمم المتحدة، بل يحاولون كما فعلوا مع الإدارة الأميركية نفي صفة الاحتلال برمتها، وقد تبرع الرئيس الأميركي ترامب بمشاركة إسرائيل في مخالفة القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومن ثم اعترافه بضم الجولان المحتل لإسرائيل، ولا يُستبعد أن يحضر مع سفيره فريدمان، وصهره كوشنير لمباركة ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. وقد أكد الترحيب المفرط بقرار ترامب من قبل نتنياهو ومعسكره وكل معارضيه من غانتس ويعالون إلى لبيد ما قلناه في مقال سابق، بعدم وجود أي فرق حقيقي بين معسكري نتنياهو وغانتس. ورغم أن قطاع غزة ما زال فعليا تحت الاحتلال جوا وبحرا وبالحصار البري، يواصل الإسرائيليون الادعاء بأن احتلاله قد انتهى، متجاهلين كذلك أن ثلثي سكانه مهجرون من قراهم ومدنهم في أراضي 1948 ، وليسوا محرومين من حق العودة إليها فقط، بل من مجرد زيارتها ورؤيتها. المفهوم الثالث الادعاء بأن حق الدفاع عن النفس واستخدام القوة والعنف مشروع للإسرائيليين فقط، ومحرم على الفلسطينيين، وإن تجرأ الفلسطينيون على ممارسته مع تقيد كامل بما يقره القانون الدولي، فإنهم سيوصفون بالإرهاب، ولن يتعرضوا للقتل والإعدام الميداني والاعتقال فقط، بل ستلاحق المؤسسات الفلسطينية على مساندة عائلاتهم وتوفير الرعاية الاجتماعية لها، وهذا ما تجلى في قرصنة الحكومة الإسرائيلية واقتطاعها أموال الضرائب بحجة أن جزءا منها يذهب لدعم عائلات الأسرى والشهداء.المفهوم الرابع والأخطر هو تزوير كل تاريخ فلسطين بالادعاء أنها أرض تخص اليهود منذ ثلاثة آلاف عام فقط، مع إخفاء متعمد لأمرين: الأول أن الفلسطينيين وأسلافهم عاشوا على أرض فلسطين منذ أربعة آلاف عام، وأن معظم اليهود الحاليين ينحدرون كما أشارت مقالات تاريخية حديثة عديدة من أصول لا علاقة لها باليهود الأصليين في فلسطين. أما المفهوم الخامس فيرتبط بمحاولات حكام إسرائيل سحب الأنظار عن القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، وتهميشها لمصلحة الصراعات مع القوى الإقليمية والدولية التي تتبدل من مرحلة لأخرى. فالخصم كانت مصر ثم سورية، ثم الاتحاد السوفياتي سابقا، ثم العراق، وأخيراً إيران وقد تصبح دولة أخرى في المستقبل.وهذا هو جوهر المحاولات الإسرائيلية فرض التطبيع مع المحيط العربي على حساب القضية الفلسطينية تمهيداً لتصفيتها عبر ما يسمى "صفقة القرن".الأجيال الشابة الفلسطينية والعربية في أحوج ما تكون للتوعية إزاء محاولات التشويه والتزوير الإسرائيلية، إذا أردنا أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها وعن شعوبها. وما من مبالغة في القول إن من يكسب حرب الروايات يكسب نصف المعركة.* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية