هل عثرت روسيا أخيراً على موضعها الملائم في العالم؟
كثُر الحديث عما دُعي «نشوة القرم» أو «حشد القرم»، وسارع المعلقون إلى التأكيد في وقت سابق لأوانه أن هذه التأثيرات قد زالت، لكن المراقبين لم يقتنعوا تماماً أن «متلازمة ما بعد القرم» انتهت تماماً إلا في أواخر الصيف الماضي عندما شهدنا استياء عاماً من السلطات ومن بوتين شخصياً.
اتضح أن السنوات الخمس التي مرت بعد ضم روسيا القرم تشكّل فترة مهمة من تاريخ روسيا المعاصر.يسود الاعتقاد أن هذه الفترة تميزت بطريقة تفكير اجتماعية معينة، وكثُر الحديث عما دُعي "نشوة القرم" أو "حشد القرم"، وسارع المعلقون إلى التأكيد في وقت سابق لأوانه أن هذه التأثيرات قد زالت، لكن المراقبين لم يقتنعوا تماماً أن "متلازمة ما بعد القرم" انتهت بالكامل إلا في أواخر الصيف الماضي عندما شهدنا استياء عاماً من السلطات ومن بوتين شخصياً بسبب تبني قانون بشأن زيادة سن تقاعد الروس.ما عدنا نرى إشارات إلى النشوة أو الحماسة الجماعية التي ميزت الأشهر الأولى بعد السيطرة على القرم.
كذلك خبت الجدالات المحتدمة بين مؤيدي عملية الضم هذه ومنتقديها، صحيح أن أحداثاً ترتبط بطريقة أو بأخرى بشؤون شبه الجزيرة، مثل إطلاق السفن الحربية الروسية النار على مراكب أوكرانية في مضيق كيرتش، شغلت أحياناً عناوين الأخبار، إلا أن مصير القرم عموماً ما عاد يشكّل موضوعاً مهماً بالنسبة إلى الرأي العام الروسي.منذ شهر مارس عام 2014، حين اكتمل الاستيلاء على القرم، طرح مستطلعو الرأي في مركز ليفادا باستمرار السؤال التالي على الروس: "هل تدعمون ضم القرم إلى روسيا؟".لم تتراجع نسبة مَن أجابوا بنعم عن الـ83% (ولم ترتفع لتتخطى الـ88%). وخلال السنوات الخمس الماضية، لم يتسم أي مؤشر آخر إلى الرأي العام والمزاج السائد بهذا النوع من الثبات، إذ يكشف غياب الانقسام العام هذا في الآراء حول القرم وقائع مهمة.لا شك أن تأييد أعمال بوتين كرئيس، الذي ظل طوال ثلاث سنوات عالياً أيضاً متخطياً الـ80%، يرتبط بأحداث عام 2014، فبعد ضم القرم ورد فعل الغرب السلبي، عبّر أكثر من 70% من الروس عن استيائهم من الولايات المتحدة.اجتمع دعم عملية الضم، ودعم الرجل الذي نال الفضل في قيادته هذه العملية، ورد الفعل السلبي تجاه الإدانة الأميركية لتشكّل حينذاك طريقة تفكير واحدة في وعي الروس العام.لكن شعبية بوتين بدأت تتبدل ومن ثم تتراجع، وفي صيف عام 2019، انخفضت بشدة إلى 65% تقريباً.في المقابل تحسنت قليلاً المواقف من الولايات المتحدة والغرب، ولكن في كل هذه المرحلة ظل دعم ضم القرم عالياً كما في السابق، لذلك يتبين أن هذه الأرقام تشكّل مؤشراً إلى عملية أكثر عمقاً وثباتاً في المجتمع.يعتبر البعض أن ضم القرم شكّل خاتمة لمرحلة من عدم اليقين في التاريخ الروسي وأن البلد دخل في نوع من حالة الجمود. إذا تخيلنا أن الدول كيانات يشغل كل منها موقعه الخاص في العالم، تكون إذاً كل الجمهوريات التي ألّفت الاتحاد السوفياتي قد عثر بعد انهياره على موقع لها، بعضها أكثر ميلاً إلى الغرب وبعضها الآخر أكثر ميلاً إلى الشرق، أما روسيا فقد تأرجحت تاريخياً بين الشرق الغرب وتأثرت بهما كليهما.شهدت تجربة بناء مجتمع ديمقراطي يتمتع باقتصاد حر، والتي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، تراجعاً كبيراً في البداية لتنتهي بعد ذلك بالكامل.برز هذا الواقع رمزياً من خلال انتقال السلطة من يلتسن "الديمقراطي" إلى ممثل للطرف الآخر من الطيف السياسي: بوتين، لكن روسيا بعدما أوقفت عمليات تطورها الديمقراطي في مستهل القرن الحادي والعشرين لم تبلغ حالة من الركود وظلت تبحث عن حليف سياسي في الغرب طوال سنوات عدة.يشير البعض إلى أن الغرب لم يعرب لروسيا عن الترحيب الكافي ودفعها بعيداً، لكن تحالفاً مماثلاً ما كان ليترسخ البتة، وخصوصاً أن احتمال مصالحة النسيج الداخلي في المجتمع الروسي مع مجتمعات العالم الحر ما عاد ممكناً.في مطلق الأحوال لم تصبح روسيا عضواً في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي: ظلت بدلاً من ذلك في حالة من الغموض. بدأ الكرملين الترويج للحنين إلى الاتحاد السوفياتي ومكانته في العالم التي منحه إياها ستالين.في عام 2008، قررت القيادة الروسية الإقدام على خطوة بالغة الخطورة، فقد نفذت روسيا عمليات عسكرية على أرض أجنبية وقاتلت ضد جورجيا، التي كانت سابقاً إحدى "جمهوريات الاتحاد السوفياتي الصديقة"، مواجهةً التنديد من معظم دول العالم. رغم ذلك، دعم المجتمع الروسي هذه الخطوة التي اتخذها الكرملين فارتفعت شعبية بوتين إلى نحو 90% للمرة الأولى.ولكن لماذا؟ أظهرت الأبحاث التي قمنا بها آنذاك أن ثمة عاملين مهمين:الأول فكرة أن الأميركيين سلحوا الجيش الجورجي ودربوه، لذلك بدت المواجهة العسكرية مع جورجيا أشبه بالتسلي بلعبة "الحرب العالمية الثالثة"، ومع أن الانتصار الناجم بدا أقرب إلى لعبة، ظل انتصاراً على الولايات المتحدة في هذه الحرب.أما العامل الثاني، فهو مدى الاستعداد الذي أعربت عنه روسيا لرفض الالتزام بالقانون أو بمشيئة المجتمع العالمي على حد سواء. يعتبر الروس أن من حق القوى العظمى (أو عليها) أن تتصرف على هذا النحو.في ربيع عام 2014، سيطرت القيادة الروسية على القرم، مكررةً المناورة عينها، فحصلت على النتيجة ذاتها بالتحديد، ومرة أخرى ارتفعت شعبية بوتين إلى نحو 90%.يعني دعم المجتمع الروسي المستمر لضم القرم اليوم أن بحث هذه الدولة وتفتيشها عن مكان لها في العالم قد انتهيا، إذ عثرت روسيا على موقعها وهذا يلائم الروس، فإذا استند هذا الموقع إلى موقف "نقف وحدنا ويعارضنا الجميع"، فنحن إذاً أقلية من الأبطال، أما إذا ارتكز على موقف "نقف ضد الغرب، إلا أن الصين والهند تقفان إلى جانبنا"، نكون إذاً أقلية منتصرة، وفي كلتا الحالتين يشكّل هذا سبباً للفخر، وبالنسبة إلى مَن لا يزالون يحنون إلى مكانة الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، يشكل هذا شعوراً هم بأمس الحاجة إليه.* ألكسي ليفينسون
دعم المجتمع الروسي لضم القرم يعني أن بحث هذه الدولة وتفتيشها عن مكان لها في العالم قد انتهيا
روسيا بعدما أوقفت عمليات تطورها الديمقراطي في القرن الـ 21 لم تبلغ حالة من الركود وظلت تبحث عن حليف سياسي في الغرب
روسيا بعدما أوقفت عمليات تطورها الديمقراطي في القرن الـ 21 لم تبلغ حالة من الركود وظلت تبحث عن حليف سياسي في الغرب