تفكك الحرية في الغرب

نشر في 29-03-2019
آخر تحديث 29-03-2019 | 00:00
No Image Caption
حان الوقت للاعتراف بحقيقة ما يحصل: وصلت الأنظمة الديمقراطية في الغرب إلى مرحلة مفصلية على مستوى حرية التعبير، ولم يتضح بعد ما سيؤول إليه الوضع على هذا الصعيد خلال السنوات العشرين أو الثلاثين المقبلة.

في بعض الحالات سبق أن اتخذت الحكومات الليبرالية ظاهرياً بعض الخطوات لمراقبة الكلام الذي تعتبره غير مقبول وقمعه، وفي حالات أخرى هددت الثنائيات السياسية المتعنّتة بنسف تقاليد الاستفسار والجدل الحر، وفي معظم الأوقات لا أهمية على ما يبدو لما يُقال عند طرح أي حجّة، بل يصبّ التركيز على هوية من يتكلم وطريقة التعبير.

حين يعبّر الناس عن أفكار غير تقليدية، غالباً ما يتكلمون بأصوات هامسة خوفاً من أن يقضي هذا التعليق عند تسريبه على مسيرتهم المهنية أو يُهمّشهم من مجتمعهم الراقي، فوفق استطلاع أجرته شركة «راسموسين ريبورتز» في ديسمبر 2018، تبيّن أن 26% من الراشدين الأميركيين فقط يظنون أنهم يتمتعون بحرية تعبير حقيقية راهناً، في حين يعتبر 68% منهم أنهم مضطرون لتوخي الحذر وتجنب التفوه بكلام غير صحيح سياسياً منعاً للوقوع في المشاكل، ففي عام 1990 ذُكِر نحو 75 رمزاً يشير إلى «خطاب الكره» في الكليات والجامعات الأميركية، وبعد مرور سنة زاد ذلك العدد إلى أكثر من 300 رمز قبل أن تنتشر هذه الظاهرة مثل النار في الهشيم لاحقاً.

وفق معطيات «مؤسسة الحقوق الفردية في التعليم» في عام 2018، تتبنى 90% من الجامعات الأميركية سياسة واحدة على الأقل لقمع حرية التعبير، أو يسهل وضع مواقفها في هذه الخانة، وفي أوروبا أيضاً، طرحت ألمانيا في عام 2017 قانوناً جديداً اسمه «قانون إنفاذ الشبكة»، وقد شمل فرض رسوم ضخمة على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تبذل جهوداً كافية لمراقبة «خطاب الكره» على منصاتها.

وفي عام 2018 حذت باريس حذو برلين عبر تشديد قوانينها بشأن «خطاب الكره» على مواقع التواصل الاجتماعي، وخلال السنة نفسها كشف استطلاع أجرته شركة «يوغوف» في بريطانيا أن عدداً إضافياً من الناخبين البريطانيين (48% مقابل 35%) يعتبر أن الناس يعجزون عن التعبير عن آرائهم بشأن مسائل مهمة كثيرة في هذه الأيام».

أخيراً وليس آخراً، استنتج تقرير صدر عن مجلس أوروبا في عام 2019 أن حرية الصحافة في أوروبا باتت اليوم أكثر هشاشة من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، نظراً إلى زيادة الاعتداءات على الصحافيين وتوسّع النزعة إلى ترهيبهم. باختصار، يبدو أن كبح هذه الحرية الديمقراطية الأساسية التي تسمح بالتعبير عن الرأي الشخصي أصبح معياراً شائعاً في أنحاء البلدان الغربية، وكأنّ النخب والحكومات هناك تتسابق للانزلاق على منحدر جديد، فكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

منذ عقود باتت حرية التعبير والتجادل، وهي من أهم الحقوق بالنسبة إلى أي شعب حرّ، عرضة لهجوم قوي من جانب الماركسيين الجدد الذين يدافعون عن «مجتمع أكثر عدلاً». لكن لم تنجح جهودهم في إقفال مجموعة واسعة من أماكن النقاش العام إلا مؤخراً: أولاً في الأوساط الأكاديمية، ثم في وسائل الإعلام، ولاحقاً في مجال السياسة. اليوم، أصبح الحق الأساسي في حرية التعبير مُهدداً، ولا يشتق هذا التهديد من رموز الكلام فحسب، أي المحظورات التي تُحدّد ما لا يجب قوله، بل من القواعد الإلزامية التي تفرض ما يجب قوله أيضاً، وكأنّ الإدانات التلقائية في التاريخ الغربي كانت الثمن الذي يجب دفعه لقبول النقاش العام.

تعود جذور ظاهرة تفكيك الحرية المتنامية إلى أواخر الستينيات، لكننا لم نفهم إلى أي حد فككت أفكار تلك الحقبة ثقافتنا الديمقراطية قبل اليوم، لقد نشأ توجّه الماركسيين الجدد حديثاً نحو تفكيك الحرية في غضون جيل واحد، نتيجة اضطراب ثقافي بدا خلاله المحافظون وكأنهم تخلوا عن حذرهم فيما خسر الليبراليون عقلهم الجماعي. اليوم، من الشائع أن نسمع أن الغرب بحد ذاته بات مجرّد «بناء ثقافي لبداية القرن العشرين»، وأن الحقيقة تتطلب ما يشبه الاختبار التجريبي، لكنها تتوقف بدل ذلك على هوية الفرد الذي يعبّر عنها.

تكمن المفارقة في تفاقم هذا الهجوم الأخير على القيم التأسيسية للتقاليد الديمقراطية نتيجة ما يُعتبَر أعظم انتصار أيديولوجي في تاريخ الغرب، مع أنه كان أخطر حدث في تاريخه أيضاً كما تبيّن لاحقاً. حصل ذلك في عام 1990: كانت أول حكومة بعد العهد الشيوعي قد نشأت في بولندا قبل سنة، وفتح الهنغاريون حدودهم للسماح للاجئين من ألمانيا الشرقية بالهرب، وتجمّع الناس من التشيك وسلوفاكيا في ساحة «وينسيسلاس» لإبلاغ المافيا الشيوعية بأن الوقت حان كي تغادر.

ثم سقط جدار برلين وترقّب الألمان ما سيحصل على أمل أن يتحقق أخيراً الحلم المستحيل بإعادة توحيد البلد، على طرفَي الأطلسي، هتفنا بعبارة «سنة سعيدة» وابتهجنا عند رؤية هذا الانتصار الصريح والنهائي للديمقراطية، لقد كان هذا الانتصار كفيلاً بترسيخ القيادة الأميركية والتأكيد على الدماء والأموال التي تكبّدها الغرب لكبح الشيوعية وحماية الحرية وتوسيعها.

بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين معاً، كان الوضع القائم يبرر الاحتفال. بدا وكأن العالم بات في وضعٍ يُخوّله الإبحار في مركب جديد من الحرية، فبعدما اكتسبت جميع أجزاء أوروبا قيمة الحرية، ألم يكن بدهياً أن تنتشر الحرية في أنحاء العالم؟ كذلك، لم يختفِ حق الأوطان في تقرير مصيرها بقدر ما ادّعى البعض.

لكن حملت لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي تهديداً خفياً من شأنه أن يُعمّق انقساماتنا ويُضعِف أسس الحرية الفردية خلال أقل من ثلاثة عقود، لقد كان شعورنا بالنصر يتضمن في طيّاته أكبر خطر واجهه الغرب على الإطلاق: إنها القناعة الإيديولوجية، لا في معكسر اليسار فحسب، بأننا حللنا شيفرة الوضع البشري ككل وأصبحنا قادرين على المباشرة بصقل حياة الأفراد والمجتمع بطريقة مثالية.

تزامناً مع تفكك الاتحاد السوفياتي خسرنا عدواً كان مجتمعه مثالاً حياً على النتائج التي يمكن أن تعطيها المشاريع الرامية إلى إعادة هندسة الطبيعة البشرية: خسارة الحرية، يليها القمع والرعب.

لسوء الحظ، لا نبالغ حين نقول إن الحرية بدأت تتلاشى في أنحاء الغرب. لا يحصل ذلك لأن الجيوش الخارجية هزمتنا في المعارك أو لأن قوة اقتصادية غريبة سلبتنا ثرواتنا، بل إن الغرب أصبح أكثر عرضة لبدء مرحلة «ما بعد الديمقراطية» لأن أهم قيمه التأسيسية الخاصة بحرية التعبير والسيادة والحرية الفردية حُذفت من عقلية الرأي العام.

يبدو الخطاب السائد في الكليات والجامعات الأميركية اليوم مشابهاً لمعسكر التلقين «أرتيك» للناشطين الشبان السوفيات الرائدين أكثر مما يعكس عقلية «النقاش والتعاون والتطوير الفكري» التي تصوّرها توماس جيفرسون حين تكلّم في جامعة «فرجينيا»، ففي أوروبا والولايات المتحدة معاً، يضطر الأشخاص الذين يحملون طموحات مهنية كبرى في الأوساط الأكاديمية أو في الشركات أو وسائل الإعلام للخضوع بشكلٍ متزايد للأفكار التقليدية السائدة ولتفريغ كلامهم من جميع العبارات غير المناسبة بهدف تطهير عقولهم من الأفكار الشائبة في نهاية المطاف.

بعدما انفصل الغرب عن إرثه الثقافي وبات يجهل تاريخه بدرجة متزايدة، ها هو ينقسم لأسباب عرقية وإثنية وأيديولوجية، ففي الولايات المتحدة تُمهّد الظروف القائمة لتحويل شعار «واحد من الكثرة» الشهير إلى نسخة أميركية من البلقان حيث تتقاتل الجماعات المتناحرة بسبب مآسي الماضي، الحقيقية منها والوهمية، وحيث باتت الثقافة تفتقر إلى الحس الوطني وتبادل الواجبات، علماً أن هذه المبادئ تُعتبر محورية بالنسبة إلى كل وطن خاضع لأي شكل من الحكم الجمهوري. لا تواجه الولايات المتحدة وحدها هذا الوضع، إذ بدأت تيارات ضمنية مشابهة لتفكيك الحرية تدمّر جزءاً من أقدم التقاليد السياسية في أوروبا أيضاً.

في ظل الهجوم الذي تتعرض له حرية التعبير، أصبح الغرب، كدولة وكإرث ثقافي مميز، عالقاً في معركة مصيرية لإنقاذ تقاليده الديمقراطية، وحان الوقت كي نقف جميعاً في صف الحرية... لكن يجب أن ننادي بها بأعلى الصوت!

● أندرو ميشتا

back to top