حين كتبت المغردة شروق على "تويتر" تقول "اكتشفوا النفط بالكويت من ثلاثينيات القرن الماضي وليلحين كشختكم– يا أهل ديرة ما مثل ديرتكم ديرة- كشخة محدثين نعمة"، خطرت لي مباشرة تجربة السفر الصيف الماضي إلى لندن، وذلك بعد انقطاع دام أكثر من عشر سنوات. أصررت أنا فور وصولي على الذهاب إلى أكسفورد، حيث ذكرياتي الكثيرة القديمة بين متاجرها ومقاهيها، ورغم كل اعتراضات والدتي وتحذيراتها، فإنني أصررت رجاءً على تنفيذ إرادتي لأشاهد هذا المظهر الذي تصفه شروق، مظهر محدثي النعمة.النقد اللاذع الوارد في مقالي هذا يقف عند حدود النقد، بمعنى أن اختيار المظهر هو حق وحرية لا فصال فيهما وليسا محل نقاش هنا، إلا أن حديث المقال يأتي من منطلق أن المظهر هو كذلك مؤشر مهم على طبيعة أفراد مجتمع ما، خصوصاً عندما يأخذ هذا المظهر صورة جمعية. إن الاهتمام الخليجي، والكويتي تحديداً، باقتناء الماركات العالمية ثم بارتدائها بكثافة والسير بها في شوارع العواصم الأوروبية بخيلاء كوميدية بعض الشيء يبين أن هناك مشكلة اجتماعية أو نفسية متمكنة من الذات الخليجية ومتحكمة في تشكيل هويتها، وكأنها محاولة لفت انتباه لتعويض نقص ما، كأنها رغبة في تحدي الحضارة الغربية بكل طبيعة أفرادها التي تقف واضحة هادئة أمام الطبيعة الإنسانية الصحراوية التي لا ليونة فيها، تسمح بالكثير من التطور والتغيير، والتي لولا النفط الذي تدفق بمحض إرادة الطبيعة من أراضيها، لما كان لأهلها كل هذه الشنّة والرنّة المالية في العالم، والذين، بسبب ذلك، يحتاجون لبذل جهد اصطناعي كبير لإثبات الوجود والأهمية من خلال مظهر متكلف يستعلون به، والذي لا يثبت سوى حالة نقص نفسية متورمة.
لا أعمم بالتأكيد كما لا أستثني أحداً، بمن فيهم نفسي، من عقد النقص البشرية وحب الذات ومحاولة الظهور، إلا أن المشهد الذي يتحول إلى ظاهرة يتكلف من خلالها عدد مهم من أفراد المجتمع الكثير من الجهد والمال والوقت لإبراز مظهر مصطنع مبالغ الثراء بترقيع الجسد من أعلى رأسه لأخمص قدميه بمقتنيات الماركات العالمية هو دليل قوي على أزمة نفسية وهوياتية في هذا المجتمع، وهو كذلك، بالنظر إلى استغراب المتلقين الأوروبيين وضحكاتهم وسخريتهم ثم استغلال محتاليهم سرقة ونهباً لهؤلاء الخليجيين المتكلفين، هو مصدر إحراج وسخرية لنا من قبل العالم واستغلال لنا كذلك من المحتالين فيه. المشهد سيريالي فعلاً، أن تمشي في شارع أوروبي فترى بساطة الأجانب متجاورة ومبالغات العرب الخليجيين، يتمخطرون في الشوارع مستعرضين ثراءهم ليس على أهل البلد المصدومين فقط، ولكن كذلك على بعضهم البعض، وكأنهم في حالة تنافس نخبوي ليس لهم أي فضل فيه، فالفضل كله في النهاية لهذا البترول الذي ما استخرجه لهم سوى الأجانب الذين يستعلون به عليهم ويزعجون بمقتنياته من حقائب ثمينة ومجوهرات لامعة وسيارات فخيمة أجواءهم ومدنهم. ويبقى السؤال أنه بما أننا قديمو التمتع بالرخاء المادي، فلمَ نبدو فعلياً كمحدثي نعمة، ليس خارج بلدنا فقط، ولكن داخله كذلك؟ لماذا هذه الحاجة المستمرة للتكلف المظهري الذي يحول أجسادنا إلى واجهات محلات تستعرض ثراءً غير متلائم مع مساهماتنا البشرية ولا متوائم مع ما يفترض أن نكونه من "عيال نعمة"؟ لماذا هذا الشعور بالرغبة الملحة لتغطية أجسادنا بالماركات العالمية كجزء من هوياتنا الشخصية؟ ماذا تقول الماركة عنا كأشخاص؟ وما يقول اقتناؤنا لها وانغماسنا فيها عن شخصياتنا وأفكارنا وطبيعة نواقصنا؟ إذا كنا "أهل ديرة ما مثل ديرتنا ديرة" ندعو في أجوائها ليل نهار "ألا يغير الله علينا" فلمَ هذا الاندفاع المثير للشفقة لتبديل جلودنا بجلود ثعابين وتماسيح مكلفة ومتكلفة وتحويط أجيادنا بأحجار ضخمة مبتذلة ليست باهظة الثمن فقط، ولكنها غير أخلاقية الصنع في الغالب وغير طيبة المعنى والدلالات في المجمل؟
مقالات
عيال نعمة
01-04-2019