البُعد المعرفي في الرواية
راجت المناهج النقدية التي تهدف إلى الفصل بين النص الأدبي ومحيطه الاجتماعي، وعلى أثر ذلك تسربت إلى المعجم النقدي جملة من العبارات والصيغ التي تضع المنجز الفني أو الأدبي بمعزل عن الخلفيات الفكرية والأيديولوجية لصاحبه، والمطلوب وفقاً لتلك النظريات دراسة النص بوصفه وحدة مستقلة عن المؤثرات الخارجية، لكن ما لبثت أن تلاشت هذه الأصوات المطالبة بتفريغ النص الأدبي من القيم الأخلاقية والمضامين الفكرية، والاهتمام بدلاً من ذلك بتركيبته ومستواه الشكلي لأن المقاربة الأحادية تعني التعالي على الواقع ومفارقته، وهذا ما لا يخدم المتابعة النقدية الهادفة إلى الكشف عن العلاقة القائمة بين النص والمتلقي وتفاعل الأخير مع العالم المتخيل في الأدب خصوصاً في الجنس الروائي.أكثر من ذلك فإذا سلمنا بانضمام الكاتب الروائي ضمن فئة المثقفين مثلما يؤكد صحة هذا الرأي الدكتور لطيف زيتوني في كتابه المعنون بـ «الرواية والقيم» فعلينا الاقتناع بوجود دور للنص الروائي على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، ولا يصح القول بأن هذه المادة الأدبية تحيل إلى عالمها فقط. صحيح قد لا يكتب المؤلف بإيحاء فكرة سابقة ولا يريد أن يكون عمله تعبوياً أو دعائياً ومتماهياً مع الأيديولوجيا المعينة، لكن هل معنى ذلك أن المبدع يتصف بالحيادية ويمضي أيامه منفصلاً عن الواقع؟
ومن المعلوم أن هؤلاء الأدباء لاسيما الروائيين يملكون وعياً حاداً وأكثر تبصراً بالواقع ويستشرفون المستقبل بناءً على تعمق رؤيتهم ومشاهداتهم اليومية لحركة الحياة لذا كثيراً ما يشير المتابعون في حيثيات حديثهم عن التطورات الراهنة إلى تمكن هذا الأديب أو ذاك في استباق الحدث ونبوءته بما يقع. قال الروائي المصري جمال الغيطاني، غير مرة في حواراته، إن رجال الدولة لو قرأوا رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ لكان بإمكانهم تفادي ما سمي بنكسة يونيو (حزيران).إذن الروايات التي تنضوي ضمـــــــــــن مـــــــــــــــا يصطلـــــــــــح عليــــــــــه بـ «الخيال السياسي» قد سبق مؤلفوها الوقائع والثورات، وفي هذا السياق يذكر عبدالرحمن منيف أن تشرنيشيفسكي قد رصد الوضع في بلده روسيا من خلال روايته «ما العمل» قبل أن يستعير لينين العنوان نفسه لكتابه الذي أصبح دليلاً للثورة. هذا ناهيك عن روايات الخيال العلمي التي أضافت مفردات جديدة إلى الحقل العلمي، وأتاحت فرصةًً للخروج نحو أفق أرحب في مجال البحث وطرح فرضيات بشأن الكون والحياة.مؤدى هذا الكلام أن الرواية أداة معرفية على حد تعبير صاحب «شرق المتوسط» ولها دفتر شروطها الخاصة. وما تذكره الكاتبة والروائية لطفية الدليمي في مقالها عن الخيال العلمي بأن روايةً صدرتْ عام 1944 وصفت بالتفصيل تطوير واستخدام السلاح الذري ما أثار قلق مكتب المباحث الفدرالية الأميركية من تسرب المعلومات حول الترسانة النووية يسوغ معالجة النصوص الروائية باعتبارها أداةً لإنتاج الوعي بالمعطيات الوجودية. ولا ينكر دعاة الرواية الجديدة في مقدمتهم جان ريكاردو هذا البعد في العمل الروائي إذ يعتبر أن قراءة الروايات التي لا تحيل المتلقي إلا إلى نفسها هي تمرين على نقد الأيديولوجيا، من هنا فإن الرواية تلعب دوراً سياسياً وإن بصورة مواربة، وهذه النتيجة تقودنا إلى السؤال حول طبيعة العلاقة بين الروائي بوصفه صاحب رسالة أدبية متشابكة مع السياسة وأصحاب السلطة.
نص حواري
تتميز الرواية بانفتاحها على أفكار وآراء مختلفة تمثلها الشخصيات العائمة على مسرح النص، فبالتالي يكون فن الرواية متسماً بالتعددية في الأصوات تتصارع في فضائه القيم وهذا ما يضع الرواية على خط متقاطع مع الفلسفة، ويمضي البعض أبعد من ذلك عندما يجدون في الخطاب الروائي منافساً للفلسفة. نظراً لتفاعل القارئ مع شخصيات الرواية وما تعانيه من الأزمات الأخلاقية وبحثه عن الأسئلة المضمرة في تضاعيف النص وكما يقول مؤلف معجم «مصطلحات نقد الرواية» إن العمل الروائي ليس جزءاً مقتطعاً من الحياة بل تفسير وإعادة كتابة للحياة. ويفضل لطيف زيتوني في إطار حديثه عن خصائص فن الرواية اقتباس مقولة ميلان كونديرا، إذ يسمي الأخير الرواية بـ «حقل الممكنات البشرية»، ربما ينشأ النزاع بين الروائي والحاكم المستبد نتيجة هذا الاختلاف في الرؤية والهدف فيما يحاول الأول اختزال العالم إلى ما يمثله من تقنيات السيطرة ومشروع الهيمنة فإن الثاني يسحب الستار الذي يحجب لامحدودية الخيارات والاحتمالات. وبدوره يعزو الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا التوتر القائم بين الحكام والروائيين إلى تباين عميق فيما يقدمه الاثنان قائلاً: «وكم هي مفتنة الروايات حين يقارن القارئ الحرية التي تتيحها وتنشرها، مقارنة بالظلامية والخوف اللذين يتربصان به في العالم الواقعي»، ومن الواضح أن الرواية تتصدر غالباً لائحة الكتب المحظورة. وذلك لأسلوبها المشاكس الذي يثير غضب الأكليروس ورجال السياسة في آن واحد، ومما يزيد سخط هؤلاء أكثر أن العمل الروائي يفضح عقليتهم المعطبة التي يتصاعد في ظلها الفساد وتتحلل القيم والمبادئ.ولولا الروائيون لظل الوعي بما تشهده أقبية السجون والمعتقلات من حفلات التعذيب والتنكيل غائباً. كما استحال إدراك ما يتراكم في ذهنية الديكتاتور من أفكار جهنمية لذلك قد قررت السلطة السوفياتية مصادرة رواية «نحن» للكاتب الروسي يفغيني زاميتين، الذي تناول في عمله وجود مجتمع أفراده واقعون تحت مراقبة مشددة، خصوصياتهم مكشوفة على الملأ ويحمل كل فرد رقماً.يشار إلى أن لطيف زيتوني أورد في مؤلفه «الرواية والقيم» عناوين روايات عربية تمت مصادرتها لأنها خالفت الخط السياسي السائد كما يستعيد موقف الروائي الفرنسي إميل زولا حين نشر بياناً ضد اعتقال أحد الضباط، وكان ذلك بمثابة إعلان للخصومة بين السلطة والروائي. ما تستخلصه بالاستناد إلى ما ذكر آنفاً أن الخصومة بين الروائي والسلطة متجذرة، كما أن النص الروائي يصنع وعياً مغايراً لدى الفرد، الأمر الذي يظهر بالوضوح فيما ذكره الروائي إلياس خوري خلال مشاركته في الدورة الثانية لملتقى الرواية بتونس عن قيام مجموعة من الشباب الفلسطينيين بتأسيس قرية على أراض صادرها الاحتلال وأطلقوا عليها تسمية «باب الشمس» باسم روايته الصادرة بالعنوان ذاته، مما يعني أن فعالية الأدب لا يمكن تجاهلها، ومن هنا يحق التساؤل عن الوعي الذي راح يتبلور بفعل تضخم الاهتمام بالأدب الروائي، هل يرافق هذا الحراك الروائي نشوء وعي جديد لدى قرائه ومتابعيه؟