لطالما عرف الروس أنه ما من تآمر
ما كان الروس ينتظرون تقرير روبرت مولر بالحماسة ذاتها كما الأميركيين، فقد تأرجحت تغطية وسائل الإعلام الحكومية الروسية لحملة دونالد ترامب ورئاسته بين الإعجاب والانبهار من جهة والسخرية والغضب من جهة أخرى، لكن محوراً واحداً لم يتبدّل: لطالما اعتُبرت فكرة أن روسيا انتخبت الرئيس الأميركي وتتحكم فيه منافية للمنطق، لذلك لازمت صفة محددة معظم الإشارات إلى تحقيق مولر وقصة ترامب-روسيا في وسائل الإعلام التابعة للدولة: "تحقيق روسيا المزعوم"، على حد تعبير مقدم البرامج التلفزيونية الشهير دميتري كيسليوف.لا يقتصر رفض فكرة أن ترامب تآمر مع روسيا على وسائل الإعلام الحكومية، فقد شكك الليبراليون وخصوم بوتين أيضاً بعمق في هذه الفكرة، مشيرين إلى أن أوساط روسيا الحاكمة لا تكاد تتمتع بالكفاءة لتدعم سلطتها، فكم بالأحرى التلاعب بقوة عظمى؟عندما شاع أخيراً خبر أن مولر أنهى تقريره، جمع رد فعل الأوساط السياسية والإعلامية في موسكو بين الازدراء والسخرية. لم يشكّل هذا خبراً بارزاً، وسرعان ما نُسي بعد بضعة تعليقات غاضبة من المسؤولين الحكوميين، وفي المقابل ركّزت التغطية الإعلامية باهتمام أكبر على الانتخابات الأوكرانية المقبلة.
عقب نشر المدعي العام وليام بار خلاصة عن هذا التقرير، غرّد ألكسي بوشكوف، دبلوماسي سابق ومحلل سياسي، لمتابعيه الثلاثمئة والستين ألفاً: "تشكّل نتائج تحقيق مولر مصدر خزي للولايات المتحدة ونخبتها السياسية، فقد بات مثبتاً اليوم أن كل مزاعمهم لا أساس لها من الصحة، وأدت وسائل الإعلام دوراً معيباً بدت فيه تواقة إلى الأكاذيب في حملة بنيت على أكاذيب، فقَدَ مروّجو نظرية المؤامرة هذه مصداقيتهم، والغبي وحده يصدقهم اليوم".يعتبر الكرملين وداعموه أن روسيا هي الطرف المساء إليه في هذه المسألة، وأن انكار الحكومة المتواصل التدخل في شؤون الولايات المتحدة الداخلية أُثبت باكامل اليوم. ذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زخاروفا في مشاركة لها في البرنامج الحواري الروسي "60 دقيقة"، أن الوزارة تُعدّ تقريراً لتسمي وتندد بـ"كتائب المروّجين للدعاية الكاذبة"، مشيرةً من بين كثيرين إلى فريد زكريا الذي حاول ربط ترامب بروسيا، وأضافت: نتوقع تلقي الاعتذارات".ولكن وفي حين يروي مسؤولو الحكومة ووسائل الإعلام التابعة للدولة جانباً واحداً من القصة ويتنعمون بالتشفي والشماتة، يبدو الروس الليبراليون أمثالي وكثيرون ممن أعرفهم أقل حماسة. ففي الحوارات التي تدور على شبكة الإنترنت أو المجالس الخاصة، يتضح أن علاقتنا بالولايات المتحدة تبدلت، مهما كانت نتيجة تحقيق مولر.رأينا رهاب الروس ينتشر في الأوساط الأميركية البارزة، وقد باتت محفورةً في ذهننا تعليقات مثل تعلق جيمس كلابر، المدير السابق للاستخبارات الوطنية، حين ذكر خلال مقابلة معه أن الروس "محفزون جينياً تقريباً للاندماج، والاختراق، وكسب حظوة، وما شابه". لا يشكّل هذا الجو السائد إهانة لنا فحسب، بل يجعل أيضاً قدرتنا على التواصل وتبادل الخبرات مع الأميركيين أكثر صعوبة، وفي جو صار فيه أي "احتكاك مع الروس" موضع شبهة، تواجه كل عملية مصرفية أو طلب بطاقة ائتمان تدقيقاً إضافياً. كذلك سمعت من أشخاص أعرفهم عن العقبات التي تصطدم بها برامج التبادل، والمؤتمرات، والأعمال.لا شك أن مَن تابع منا وسائل الإعلام والسياسات الأميركية خلال السنتين الماضيتين لاحظ سريعاً أن كثيرين في الولايات المتحدة لا يملكون أدنى فكرة عن بلدنا، فقد حيرتنا الصور المنبئة بالسوء التي ظهرت فيها قبب شبيهة بالبصل تسيطر على البيت الأبيض، علماً أن كاتدرائية القديس باسيل لا تشكّل جزءاً من مجمّع الكرملين ولا دلالات سياسية لها. كذلك من الغريب أن ترافق صور المطرقة والمنجل المنتشرة أينما كان كل التقارير عن ترامب وروسيا، فقد انتهى عهد الشيوعية في بلدنا منذ 30 عاماً. صحيح أننا نملك بعض الأوهام عن حكومتنا الخاصة، وتعاملاتها غير النزيهة في الخارج، ووسائل إعلامنا السامة، إلا أننا كنا نتوقع الأفضل من الولايات المتحدة.كتب الصحافي الروسي البارز أوليغ كاشين في مقال تحليلي عام 2017: "كلما ازدادت شبكة تلفزيونية روسية أو صحيفة موالية للكرملين انحطاطاً، كان المفكرون المستقلون يرددون في الماضي أن عمالقة الإعلام الغربي لا يسمحون لنفسهم باقتراف أخطاء مماثلة". ولكن من الصعب أن نقول الأمر عينه اليوم.قد تسمح نهاية تحقيق مولر واستنتاجه أن حملة ترامب لم تتآمر مع روسيا، ولواشنطن وموسكو أن تبدآ العمل على إصلاح علاقاتهما الدبلوماسية والتجارية، إذ تسرني رؤية ذلك، لكن نظرتي إلى سياسات الولايات المتحدة ووسائل إعلامها تعرضت على الأرجح لضرر لا يمكن إصلاحه نتيجة "فضية روسيا"، وأخشى أن ينطبق هذا أيضاً على كثيرين من أمثالي، ومن المؤكد أن روبرت مولر لا يستطيع إصلاح ذلك.* ألكسي كوفالف* «نيويورك تايمز»