هل بلغنا نهاية جزائر بوتفليقة؟

نشر في 05-04-2019
آخر تحديث 05-04-2019 | 00:00
تظاهرات الجزائريين الأخيرة ضد السلطة
تظاهرات الجزائريين الأخيرة ضد السلطة
تدخل الجزائر اليوم مرحلة من عدم الاستقرار وربما التغيير الكبير، وفي أفضل الأحوال، قد يتشكل نظام يشبه إلى حد ما النظام التونسي مع مؤسسات ديمقراطية مستقرة عموماً واحترام عام لحكم القانون، أما في أسوئها، فقد تعود الجزائر إلى الحكم المستبد أو العسكري مع ثورة إسلامية وحرب أهلية.
قد يبدو هذا بعيداً جداً عن بيئة أستراليا الاستراتيجية، إلا أن الجزائر تؤدي دوراً مهماً في الشؤون العالمية من خلال مشاركتها في الأمم المتحدة وفي معظم المنظمات المتعددة الأطراف، لذلك من الضروري أن نتابع عن كثب التطورات المثيرة للاهتمام التي يشهد هذا البلد منذ أسابيع مع مطالبة تظاهرات شعبية حاشدة بإنهاء عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، صحيح أن بوتفليقة أعلن استقالة من نوع ما، غير أن النظام مستمر.

الجزائر صلبة، فهي تملك تاريخاً عنيفاً على المستويين الحديث والعصري، لذلك تُعتبر دولة يصعب التعاطي معها.

أولاً، لنلقِ نظرة سريعة على تاريخ الجزائر لأن أحداث الأسابيع القليلة الماضية تشكّل جزءاً من صراع طويل من أجل روح الجزائر.

كانت حرب استقلال الجزائر عن فرنسا طويلة، ودموية، وعنيفة بالنسبة إلى كلا الطرفين، فقد بدا شارل ديغول مصمماً على عدم خسارة الجزائر، التي «أُدرجت» في دولة فرنسا الكبرى كدائرة كاملة بخلاف أي من المستعمرات الفرنسية الأخرى آنذاك. وكان نحو مليون مستوطن فرنسي يعيشون في هذا البلد، أرادوا جميعاً أن يظلوا فرنسيين، ولكن بعد سنوات من القمع استخلص ديغول أخيراً أنه خسر الجزائر. طُرحت بعد ذلك فكرة التقسيم (تحتفظ فرنسا بالمناطق الساحلية ويحصل الجزائريون على الجزء الأكبر المتبقي، مع أنه يتألف عموماً من الصحارى)، إلا أنها لم تدم طويلاً.

استمرت الحرب، التي حفلت بانتهاكات مريعة وفظيعة لحقوق الإنسان من كلا الطرفين، إلى أن قررت فرنسا أن تنهيها في عام 1962، فأجلت كل المستوطنين عند رحيلها، وشكّلت هذه أيضاً عملية عنيفة بما أن المستوطنين خُيّروا بين «السفينة أو التابوت»، فضلاً عن أنهم لم يلقوا معاملة حسنة في فرنسا. رغم ذلك، وقف عدد قليل من أهل الجزائر إلى جانب الفرنسيين، إلا أن فرنسا تخلت عنهم أو ذبحوا في الجزائر على أيدي المنتصرين الذين سعوا إلى الانتقام، فلا نعرف بدقة حصيلة الوفيات التي حصدتها حرب الاستقلال، ولكن يُقال إنها بلغت مئات الآلاف.

لا شك أن هذه لا تُعتبر بداية جيدة بالنسبة إلى دولة جديدة تقودها جبهة التحرير الوطنية الثورية، فتبنت هذه الجبهة بسرعة نظام دولة شبيهاً بالسوفياتي على الصعيدين السياسي والاقتصادي على حد سواء، واستمرت في هذا النظام خلال ستينيات القرن الماضي، وسبعينياته، وثمانينياته، كذلك بدا أن الجزائر تصطف عموماً إلى جانب الكتلة السوفياتية على الصعيد الدولي، لكن موقفها هذا نجم في الواقع عن التزام جبهة التحرير الوطنية الراسخ بالحركة المناهضة للاستعمار حول العالم.

تملك الجزائر ثروة من النفط والغاز، غير أن أكثر من 30 سنة من الحوكمة الشبيهة بالأسلوب الأوروبي الشرقي أعاقت إلى حد كبير نموها، ففي ثمانينيات القرن الماضي، طبقت الحكومة مقداراً من الإصلاح الاقتصادي وبناء البنى التحتية، لكننا لم نشهد أي إشارات إلى انفتاح سياسي أكبر حتى عام 1988 حين نزلت إلى الشارع تظاهرات حاشدة قُتل فيها نحو 600 شخص.

ضربت الكارثة الكبرى مرة أخرى في عام 1991 عندما حقق الحزب الإسلامي الأصولي «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» فوزاً كبيراً في الانتخابات العامة الجزائرية الأولى المتعددة الأحزاب: رفض الجيش تسليم السلطة إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فاندلعت حرب أهلية أخرى، وعمت البلاد فعلياً مرحلة مريعة من القتل دامت عشر سنوات تقريباً، ولم تبدأ بالتراجع إلا عندما شعر الجيش بالطمأنينة الكافية ليسمح بإجراء انتخابات جديدة في عام 1999، وفي هذه الانتخابات انتُخب بوتفليقة بدون أي منازع.

وهكذا نصل إلى المرحلة الراهنة، حيث كان رد فعل الحكومة تجاه تهديد الهجمات الإرهابية المستمر الانسحاب وراء حاجز لا يُخترق، لكن حالة الغموض هذه أدت إلى ظهور مصطلح «السلطة» لوصف النخبة الحاكمة، وهي مجموعة منتخبة ذاتياً تنتمي إلى جبهة التحرير الوطنية، والجيش، وشركة النفط التابعة للدولة، وأجهزة الاستخبارات، ومنظمة الجنود السابقينن ونتيجة لذلك توالى الوزراء، إلا أن السلطة ظلت راسخة.

أطلق انتخاب بوتفليقة في عام 1999 عملية بطيئة من التطبيع، لكن الجيش ظل متيقظاً باستمرار لأي إشارة إلى تجدد النشاط الإسلامي، كذلك حرصت السلطة على إمساكها بزمام كل الأمور بإحكام. صحيح أن بوتفليقة اتخذ خطوات نحو انفتاح سياسي أكبر، إنما لم يتخطَّ الحدود التي سمحت بها السلطة، كذلك نجح في اكتساب بعض الشعبية السياسية الشخصية بفضل سياسة «المصالحة الوطنية» التي تبناها. وأعيد انتخابه في عام 2004، فزاد ذلك بوتفليقة جرأة، فعدّل الدستور ليبقى في منصبه لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، ومن ثم فاز في انتخابات عام 2009 حاصداً مرة أخرى أكثرية كبيرة.

لكن هذا وسم بداية نهاية شرعية بوتفليقة، إذ نجح حتى ضمن حدود السلطة، في إعادة الحياة إلى طبيعتها نوعاً ما في الجزائر، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الإصلاحات وفي جزء آخر إلى استنفاد قوى المعارضة الإسلامية.

انتهى حكم بوتفليقة فعلاً في عام 2013 حين أُصيب بسكتة دماغية حادة، فانسحب بالكامل من الحياة العامة، ولم يقم بأي ظهور علني منذ ذلك الحين، حتى إن التقارير أشارت مراراً إلى وفاته، وأدى ذلك إلى تفاقم كره الشعب الجزائري للسلطة.

لذلك عندما أُعلن أن بوتفليقة، الذي بات شبه عاجز، سيترشح خلافاً للدستور لولاية خامسة كرئيس في الانتخابات المقرر عقدها الشهر التالي، انتفض معظم الشعب غضباً، وما زاد الطين بلة أن بوتفليقه لم يدلِ بنفسه الإعلان الرسمي لترشحه لأنه كان في مستشفى في جنيف، بل تولى فريق عمله هذه المهمة، ولم تساهم صوره لاحقاً وهو يُغادر، حسبما يُزعم، جنيف على كرسي مدولب ليعود إلى الجزائر في التخفيف من الغضب الشعبي.

لكن الخبر الجيد أن الانتفاضات الشعبية التي نزل خلالها عشرات الآلاف إلى الشارع حدثت أساساً ومن دون أن يتعرض المتظاهرون للقتل، وتُعتبر هذه التطورات نقطة لمصلحة الجزائر بما أنها تشكّل إشارة إلى تنامي الاستقرار وحتى المسؤولية. ثانياً، لم تحظَ التظاهرات ضد بوتفليقة (كانت في الواقع ضد السلطة بما أن بوتفليقة تحول إلى مجرد طيف منذ أكثر من خمس سنوات) بدعم «الطلاب» فحسب بل أيضاً شخصيات بارزة في النظام، مثل قضاة وحتى بعض الجنرالات، حسبما يُقال (وإذا كان هذا صحيحاً، فيُعتبر خرقاً مذهلاً لتضامن الجيش الراسخ مع السلطة). وثالثاً والأكثر أهمية، قرر بوتفليقة، أو زملاؤه في الحكم، بسرعة التراجع بدل التعنت، وبما أن هذا النظام ذاته الذي حارب الجبهة الإسلامية للإنقاذ حتى الموت، فمن المؤكد أن هذه خطوة كبيرة.

إذاً، ماذا سيحدث الآن؟

قد لا نشهد تطورات تُذكر لفترة طويلة، فهذا ما تأمله السلطة على الأرجح، مع أن الجيش طالب أخيراً بإعلان بوتفليقة غير أهل للحكم، فأكّد بوتفليقة أنه لن يترشح مجدداً، إلا أنه لم يقل إنه سيستقيل من منصبه كرئيس، بالإضافة إلى ذلك «أُرجئت» الانتخابات المقرر عقدها إلى أجل غير مسمى.

ستشمل الخطوة التالية عقد مؤتمر دستوري من نوع ما، مع أن تفاصيل هذا المؤتمر ما زالت مبهمة بالكامل، فضلاً عن أن اختيار المنتدبين إلى هذا المؤتمر قد يشكّل مهمة صعبة ومثيرة للجدل، كذلك سيبقى نوع الدستور، على ما يبدو، عرضة لتجاذبات كثيرة، وعندما يلتئم هذا المؤتمر، ستصطدم المناظرات، التي ستحدد خصوصاً مستقبل الجزائر، بعقبات كبيرة.

في هذه الأثناء سيظل بوتفليقة الرئيس نوعاً ما لولاية رابعة ممددة، آملاً على الأرجح أن يدوم هذا التمديد إلى أجل غير مسمى، ويبدو جلياً أن الشعب غير راضٍ عن إزالة بوتفليقة «من حيث المبدأ» من منصبه في مرحلة ما في المستقبل: تتواصل التظاهرات في الجزائر.

ماذا يخبئ المستقبل؟ الإصلاح الحقيقي صعب نظراً إلى تاريخ الجزائر، إلا أن هذا لا يعني أنه مستحيل، فقد نجحت تونس في ذلك بطريقة فاعلة ومتحضرة إلى أقصى حد رغم مرور سنوات قليلة على الإطاحة بزين العابدين بن علي في عام 2011، ولكن تونس لا ترزح تحت عبء ماضي الجزائر المريع.

تدخل الجزائر اليوم مرحلة من عدم الاستقرار الكبير وربما التغيير الكبير، وفي أفضل الأحوال، قد يتشكل نظام يشبه إلى حد ما النظام التونسي مع مؤسسات ديمقراطية مستقرة عموماً واحترام عام لحكم القانون، أما في أسوئها، فقد تعود الجزائر إلى الحكم المستبد أو العسكري مع ثورة إسلامية وحرب أهلية.

وفي نهاية المطاف من غير المرجح أن يتنحى الجيش ليسمح بعملية استيلاء إسلامية على الحكم، مما يعني أنه سيحتفظ بسلطة مرئية وغير مرئية في البلد.

* وليام فيشر- ذي ستراتيجيست

back to top