صدر أخيراً في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ديوان "ماعنديش أماكن فاضية للأموات" للشاعر ناصر دويدار، ويكمل خلاله مسيرته في شعر العامية، وارتياد آفاق مغايرة تتراوح بين الغنائية وجماليات التجريب، والتفاعل مع المعطيات الراهنة، دون التخلي عن تلقائية السرد الشعري، وشروط الكتابة باللهجة الشعبية.

Ad

بدأ دويدار كتابة هذه النصوص على صفحات الإنترنت، وتباينت بين قصائد مطولة وقصيرة، واتخذت طابع اليوميات الشعرية، والتعليق على أحداث وقضايا مختلفة، وتعبّر عن شحنات انفعالية شديدة التكثيف والرهافة، وتشتبك خلالها ذات الشاعر مع تفاصيل الحياة المصرية.

تدلنا قصائد الديوان على مسارات الشاعر نحو ومضات شعرية خاطفة، دون ثرثرة أو ادعاء بطولة زائفة، وكأننا أمام قصيدة واحدة، تتخللها عناوين لالتقاط الأنفاس، وتأمل تفاصيل هذا الفضاء الشعري، وملامح هذا الصوت المنفرد لبطل تراجيدي، تسكنه الذكريات والأحلام، ويبقى معه نزقه الطفولي، ويخلط بين الغناء والهجاء، ويحلق مع الطيور في فضاء شفيف.

عارف بإن صوتي مش جميل

لكن حغني لك

حغني لك

حغني لك

لحد ما يطلع النهار

من قلب الليل

هذا الإصرار على الغناء، والتكرار اللفظي، يفسر دلالة العنوان الصادم "ما عنديش أماكن فاضية للأموات" بما يوحي أننا أمام نص لشاعر هجائي، والأرجح أنه يقارب مزاجاً انفعالياً متقلباً، ورغبة في البوح بثنائيات متضادة، ووقعها الدامي على الذات، ومواجهتها بالنوستالجيا والصندوق السحري للذكريات، كما يتضح من قراءة الديوان أن قصائده تتراوح بين التفتيش عن مناطق الجمال في التركيبة المصرية ومحاولة رصد إيجابيات وسلبيات المجتمع المصري.

ماعنديش أماكن فاضية للأحزان

وعيوني من كتر الشجر

زغللت عصافير

روحي اتملت نوجه

وعسلية

وبالونات ألوان

وشاي مغرقه النعناع

ويبحث الشاعر في قصيدة "صخب" عن ضجيج آخر، ويرسم صورة رمزية لعالم تتصارع كائناته في غابة، وكأننا أمام لوحة تعبيرية، تخايل الرائي بذاكرة بصرية، وتوحي بإحدى غايات المشهد الشعري، وتأثيره في وجدان المتلقي، دون الطرح المباشر للفكرة، بل إطلاق الوعي الكامن بخبراته المختزنة، ليجسد ثنائية الصياد والفريسة، والانفلات بعيداً عن مرمى التصويب.

غرقيني صخب

ضجيج

إملي المسافة اللي بين

التعب والتعب

أخضر

يلم النسيج

أنا روحي أرنب بري

فرحان

مبتسم

رغم النِبَل

وشهوة الصيادين

واشتباك الطرق

وكترة التعاريج

إملي المسافة اللي بينك وبيني

انفجار الأريج

وارتسمت صورة غائمة للمرأة في قصائد الديوان، وتشكلت ملامحها بين الحضور والغياب، ودائماً تتخذ مقعدها خلف الستار، وتنصت لمونودراما الصوت المنفرد، كبطل تفرضه شروط العرض المسرحي، أو غنائية القصيدة، وكأنها شهرزاد التي انتهت من سرد حكايات الليالي، وحان دور شهريار ليحكي، ويعزف على ربابته، ويغني مواويل الشجن والاغتراب، وليس أمامه سواها متفرج وحيد.

إنتِ الوحيدة اللي باقية

من مسرحية أبطالها ماتوا

إنتِ الوحيدة اللي عايشة

قلبي بين دقاته

إنتِ الوحيدة اللي مهما الزمن

عدى وفات

واتغيرت لحظاته

إنتِ الأمل

والمعنى

والحياة الممكنة

وينتقي الشاعر مفردات دالة على الهوية، ويهدر الصوت بالحنين، ويشتبك في صراع محتدم بين الحلم والواقع، وأحياناً يتحول المشهد الشعري إلى مأثورات وأقوال دالة على احتكام قصيدة العامية لبساطة المعنى وبلاغته، واستلهام المفردات الفولكلورية، واستحضار كائنات بعينها، مثل العصفور والصقر والثعلب، وتفاصيل الحياة اليومية، والميل إلى تشكيل العالم برؤى دون كيشوتية، وقناعة أن الحلم الجميل أفضل من واقع صادم.

الحنين

شجرة تحت المطر

مش شايلة أوراقها

بجناح عصفور

يتلموا على بعض

الحنين

خرابيش

في خد الورد

وتتشكل تجربة هذا الديوان من انحياز واضح لخصائص شعر العامية، والتناغم بين التجديد وشروط القصيدة التفعيلية بأوزانها وموسيقاها، واستحضار خبرات حياتية، وتأملات ذات طابع فلسفي، تحمل قدراً من الفرح بالوجود، والانحياز للقيم الإنسانية النبيلة، وتتجاوز غنائيتها إلى التعبير عن ذوات الآخرين.

يذكر أن الشاعر ناصر دويدار أحد الأصوات المتفردة في شعر العامية المصرية، صدرت له تسعة دواوين؛ منها "خربشتي ضوافر الكمنجة"، و"أنا أكبر قصيدة شعر في بلادي"، و"أمي اسمها فردوس"، و"بهيأ روحي لدخولك"، إلى جانب ديوانه الأخير "ماعنديش أماكن فاضية للأموات"، ومسرحية "الشاعر"، و"الأبراص قادمون"، فضلاً عن إسهاماته في مجال الإعلام، وعضويته في اتحاد الكتاب المصريين.