ما العوامل التي تدفع التباطؤ العالمي؟
شيئا فشيئا يعلو صوت قرع الطبول المحذر من ركود عالمي وشيك، حتى بات دويه أعلى من أي وقت مضى، فوفقاً لمجموعة مؤشرات تايغر التي صُممت بالتعاون بين معهد بروكنجز وفاينانشال تايمز، وهي مؤشرات تتبع التعافي الاقتصادي العالمي، تشهد كل اقتصادات العالم الكبرى تقريبا تراجعا في زخم النمو، مما ينذر بتوابع مشؤومة على المدى الطويل، لا سيما في ظل تقلص خيارات تحفيز النمو المتاحة لسياسات الاقتصاد الكلي. يعد التباطؤ الحالي نتاجا في المقام الأول لضعف الهمم في دوائر الأعمال والمستهلكين، والغموض الجيوسياسي، والتوترات التجارية، حيث أضعفت تلك العوامل استثمارات الشركات، وربما أضرت باحتمالات النمو المستقبلية أيضا، وفي حال استمرار الانكماش، ستؤدي مستويات الدين العام الحالية المرتفعة وانخفاض أسعار الفائدة إلى تقييد قدرة صانعي السياسات في الاقتصادات الكبرى المتقدمة على تقديم حوافز مالية أو نقدية مؤثرة. في الوقت ذاته، ربما أفضت إجراءات السياسات النقدية الأخرى الأقل تقليدية إلى مخاطر كبرى وفوائد غير مؤكدة. إذا نظرنا إلى الحال في الولايات المتحدة، فسنلاحظ تراجع التوسع الاقتصادي، مع تلاشي تأثيرات التحفيز المالي وضعف معدلات التوظيف ومبيعات التجزئة، وتشير مؤشرات استشرافية لثقة أوساط الأعمال والمستهلكين، ومنحنى عائد يظل مستقيما نسبيا رغم احتمالية حدوث عجز أكبر في الموازنة، إلى توقع مزيد من المشكلات مستقبلا. ورغم أن الضغوط المتعلقة بالأجور والتضخم لا تزال مكبوتة، فقد علق مجلس الاحتياطي الفدرالي خططه لتشديد ضبط أسعار الفائدة. ويتركز الحديث الآن على تخفيضات محتملة في أسعار الفائدة ووقف خفض الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الفدرالي.وفي أوروبا يتدهور النمو أيضا، فالقاطرة الرئيسة وهي ألمانيا تفقد قوتها وزخمها بشكل واضح، في حين تتبدى أوجه الضعف في الاقتصادات الرئيسة والهامشية في منطقة اليورو. كما يظهر الشعور بالاستياء من جانب دوائر الأعمال والمستهلكين جليا في كل مكان، مما يهدد ببقاء النمو منخفضا. في الوقت ذاته، بلغت أوجه الغموض والالتباس المتعلقة بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ذروتها لتشكل أزمة حقيقية في المملكة المتحدة، التي تعاني ضعف أسواق الأسهم وركود النمو الائتماني. لكن رغم حدوث انكماش في استثمارات الأعمال، ظل الاقتصاد الحقيقي قويا وأفضل حالا مما كان متوقعا، أما في اليابان، فنجد الأحوال المالية في ضعف متواصل، مع استمرار المخاطر الانكماشية، ووجود توترات تجارية عالمية تهدد بتعطيل الصادرات والنمو. ورغم صمود نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين واحتفاظه بأدائه القوي، فإن مؤشرات أخرى مثل مبيعات التجزئة واستثمارات الأصول الثابتة والناتج الصناعي ترسم صورة أقل إيجابية. كما انخفضت كل من الصادرات والواردات عن العام الماضي، مما يعكس ضعف الطلب العالمي وتباطؤ النمو في الداخل. وقد أسفرت جهود الحكومة للحد من ضعف مسار النمو عن طفرات في المؤشرات الاستشرافية مثل مؤشر مديري المشتريات. ومع عودة الائتمان المصرفي للتدفق بصورة أكثر حرية، ظهرت علامات على بدء تحسن الاستثمار، لكن استمرار سوء تخصيص الائتمان يزيد من المخاطر المحيطة بالنظام المالي ويهدد الإنتاجية ونمو الناتج على المدى الطويل، خصوصا لو أخذنا في الاعتبار التركيبة السكانية الصينية غير المواتية. ولا تزال وتيرة النمو في الهند قوية، بفضل التحفيز المالي المحدود الذي حدث قبل الانتخابات العامة الوشيكة، إضافة إلى تخفيضات أسعار الفائدة التي أجراها البنك الاحتياطي الهندي، والتي كان أحدثها في الرابع من أبريل الفائت. فضلا عن ذلك، فقد أسهمت احتمالية استمرار انخفاض أسعار الفائدة الأميركية وضعف أسعار النفط في تخفيف الضغوط القصيرة المدى على التضخم والميزانية وعجز الحساب الجاري. غير أن تباطؤ الاستثمارات الخاصة والانكماش الحاد في أحجام التجارة يشيران إلى متاعب تنتظر الهند مستقبلا. لقد أضاع بطء النمو الصيني، الذي أضر بالصادرات، ميزات أي انفراجة قد تشعر بها اقتصادات الأسواق الناشئة مثل إندونيسيا، ناتجة عن أي سياسة أكثر تيسيرا من جانب الاحتياطي الفدرالي، لكن البرازيل تُظهر علامات مرونة فيما يتعلق بأحجام التجارة وأسواق العمل الخاصة بها. قد تُحقق كل من البرازيل والمكسيك وروسيا نموا بنسبة اثنين في المئة تقريبا في 2019، غير أن الدول الثلاث كلها معرضة بدرجة كبيرة لصدمات محتملة للطلب العالمي وأسعار السلع الأساسية. لكن تركيا في الوقت ذاته قد هوت في دوامة الركود، بسبب انخفاض كبير في الناتج الصناعي وتنامي شعور تشاؤمي من جانب المستهلكين.
وربما زاد تباطؤ نمو التجارة العالمية من المصاعب الاقتصادية الحالية، مما يزيد بالتالي من صعوبة استعادة النمو الأوسع، كما قد يخلف الغموض الناجم عن التوترات التجارية تأثيرا عكسيا طويل الأجل، من خلال تقويض الثقة في الأعمال التجارية وتقليص الاستثمارات الخاصة، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى الإضرار بنمو الإنتاجية، الذي غلب عليه الضعف خلال التعافي من الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008، والذي سيصبح أكثر أهمية للحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي مع تزايد الشيخوخة السكانية. في مواجهة هذا التباطؤ العالمي المتزامن والمتزايد، يتحتم على صانعي السياسات استخدام مزيج من التدابير النقدية والمالية الحكيمة والرشيدة لدعم النمو، وفي الوقت ذاته، يجب عليهم أن يجددوا التزامهم بتنفيذ إصلاحات أوسع مدى لأسواق المنتجات والعمل والمال، وهي مهمة ضخمة لم تُنجز، وستشكل كيفية تعاطيهم مع هذا التحدي مسار الاقتصاد العالمي في الأعوام القادمة.* أستاذ الاقتصاد في جامعة كورنيل وزميل رفيع المستوى في معهد بروكنجز.«إسوار براساد*»