أمطرت فأزهر قلبها *
قالت له قلبي من طين، فردد هو بذكورية يملؤها الفخر: وأنا قلبي من حديد، ابتسمت هي ثم لملمت بعضها ورحلت، ولم تنظر وراءها لترى تعابير وجهه وهي ترحل دون أي جواب أو حتى وداع. كانت شمس الربيع تشق نورها بين بعض السحب الباقية بعد شتاء صعب، أخذت نفساً عميقاً وكأنها تشرع رايتها للهواء لتأخذ أكبر قدر منه، وكأنها تتنفس للمرة الأولى، مشت بخطوات ثابتة، بل ربما هرولت حتى لاحظت نظرات المارة من حولها فاستوعبت فضولهم، وربما استغرابهم أو حتى حسدهم، لكنها لم تكترث. وقفت عند تلك الفاترينة لمحل للملابس، ولفت نظرها فستان يحمل ألوان الربيع، شيء من الزهر علق به، أو رأت فيه امتداد السهل عند بيتهم الذي لم يتلوث بأقدام المحتلين ولا بضوضاء المدن القريبة. دخلت ذاك المتجر سريعاً وهي تردد: سأبدأ حياة جديدة وأغتسل من تلك العلاقة التي شوهت أيامي، بل سنوات هي من أحلى مراحل العمر.
ارتدت الفستان وللمرة الأولى ترى جسدها بنظرة متفحصة فلم تعد تلك البدينة التي بقي هو يرددها عليها في وصف جسدها حتى كرهته، وأصبحت لا تطيق النظر إليه، هي اليوم في هذا الفستان المزهر رشيقة بل خفيفة مثل فراشة حرة في حقل من الورود وكروم العنب.استكملت طريقها أو مشوارها لتتفاجأ بأنها لا تعرف إلى أين هي ذاهبة، ابتسمت مرة أخرى وهي تقول اليوم لا وجهة لي بل الحرية لقدميّ لتأخذاني إلى كل الأمكنة التي عرفتها والأخرى التي رأيتها من بعيد، وكنت أتمنى أن أكتشفها معه فكان رده بالرفض لأنه لا يرتاح لمن يرتادونها. جلست هناك على طرف المقهى المزدحم، طلبت فنجاناً من القهوة فنصحها النادل بأن تجرب قهوتهم الخاصة، وهي مزيج من الإكسبرسو مع بعض من عصير البرتقال والرمان. اندهشت هي وهل يوجد مثل هذا الشراب فطلبته في رحلة الاكتشاف، فهي لحظة اكتشافها لحياة لم تعرفها، ولم يكن مسموحاً لها أن تعيشها ليس لمنعه هو أو أسرتها، بل من كثرة ما كانت تسعى إلى رضائه ورغبتها بأن تكون هي تلك المساحة التي يسترخي هو فيها دون قيود ودون متطلبات ودون حتى التزام، تصورت حينها أنه قد يحبها كما تعشقه هي، وراحت ترسم لحظات وتحلم بالمشي في شوارع باريس يداً بيد أو روما حيث للهوى مذاق خاص. خطرت ببالها فكرة أو ربما تذكرت عبارة قرأتها منذ فترة لم تكن على يقين من قائلها، ولكنها تريد أن ترسل له رسالة على هاتفه لتكمل له حواراً لم يكتمل بينهما "غدا ستمطر فيزهر قلبي ويصدأ قلبك". في تلك الليلة نامت كما لم تنم منذ سنين، وعند الصباح وكعادة والدها في الاتصال والسؤال عن أحوالها استرسلت في الحديث عن طفولة ومراهقة ومراحل من الحياة لم يكن لها حدود مرسومة، بل هي فضاء ممتد حتى السماء السابعة. ردد والدها لم أسمع ضحكتك منذ سنين، ها هي ابنتي قد عادت لي بعد ضياع ربما. أنهت المكالمة لأنها لم تشأ أن تضيع لحظة من بعد اليوم، واتخذت قرارات عدة أولها أنها لن تسكب دمعة عليه بعد اليوم، ولن تسمح بأن يأتي أي ما كان ليسجنها في دائرة رسمها هو، ولن تعيش ذاك الإحساس المستمر بالذنب وكأنها هي المقصرة في تلك العلاقة التي دامت أطول مما يجب!في ذاك اليوم سارت دون هدى، واتصلت بصديقاتها الحميمات، فقد افتقدت تلك الصحبة الخالية من المجاملات والأحاديث التي لا رقابة عليها من العائلة ولا العادات ولا الدين، ورددت اشتقت لصديقاتي وأصدقائي ولاحظت كم كان هو حائط سد بينها وبينهم، كيف يتحول الحب إلى سجن، كم يقتل الإحساس بالتملك كل تلك البهجة الأولى. حضرت الجَمعة وكأن الزمن لم يتقدم لحظة، هن سيدات في المرحلة الخامسة من عمرهن، بعضهن خضن تجربة الزواج التي انتهت بالطلاق أو حتى العيش المشترك ولكل حياته فقط، مجاراة لمجتمع لا يرحم، وأخريات لم يتزوجن، بل عشن حالات معدودة من الحب الذي لم يختلف كثيراً عن تجربتها هي وأخريات حرمن حتى من لمسة اليد أو القبلة الأولى والأخيرة، فهي حسب بعضهم شيء من أشكال الإباحية المحرمة. كنّ جميعا في حالة إصغاء لمعرفة التفاصيل بعد أن قالت لهن: لقد انتهت تلك العلاقة، لم يصدقنها ورحن يرددن: لقد سمعنا هذا القرار مراراً لكنه لم يكن يستمر أكثر من بضعة أيام أو ربما ساعات، ضحكت هي كثيراً وهي تقول لهن: لقد أمطرت فأزهر قلبي حدائق على مد البصر.* ينشر بالتزامن مع «الشروق المصرية»