الغرب معوق للحداثة بين رؤيتين: خليجية وعربية
منذ أن طرح التساؤل النهضوي الكبير قبل قرن ونصف: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟ والمثقفون العرب مختلفون في تشخيص الداء، وفِي توصيف الدواء، تبعاً لاختلاف مشاربهم السياسية والأيديولوجية والفكرية.الحداثة الغربية طرقت أبواب مصر بحملة نابليون 1798 عبر مطبعة منيرة للعقول و160عالماً وباحثاً قاموا بأضخم عمل معرفي تاريخي وطبوغرافي، كتاب «وصف مصر» 20 مجلداً، وقاموا بفك طلاسم الحضارة الفرعونية، وكان من نتائجه، مظاهر التحديث في العلوم والمعارف والنظم والتقنيات العلمية والعسكرية ونقل القوانين المدنية والدستور الفرنسي بعد ترجمته، والجريدة الرسمية وحفر القناة، لتأتي دولة محمد علي (1848-1805) مستفيدة من الإرث التحديثي الفرنسي، ومن البعثات التعليمية إلى الغرب، وعرفت مصر خلال الاحتلال البريطاني (1882-1952) نهضة تعليمية وتنموية وثقافية أنجبت طلعت حرب وطه حسين والعقاد والحكيم ومحفوظ ولطفي السيد وغيرهم، وأشاعت مناخاً ليبرالياً وحياة سياسية نشطة، وبرلماناً منتخباً، وأحزاباً سياسية معارضة، وصحفاً حرة، وتداولاً سلمياً على السلطة، في ظل نظام ملكي دستوري، وازدهرت الحياة الثقافية والفنون والآداب والصناعات، وتجارة القطن، وتطورت وسائل المواصلات والسكك الحديدية والموانئ، ونشأت الشركات التجارية والصناعية والبنوك، وأشهر كلية في المشرق (فيكتوريا) وامتد إشعاع التحديث إلى سورية والعراق ولبنان في ظل المحتل.لم يستمر المد التحديثي طويلا ولم تترسخ ثقافته في التربة المجتمعية، حمل المحتل عصاه على كاهله ورحل وجاء المحرر الوطني معوقاً سيرورة التحديث تحت شعارات أيديولوجية ثورية ليقتلع نبتة الحداثة التي لم تتجذر في التربة العربية.
أما في منطقة الخليج فقد جاءت بذرة التحديث في ركاب الوكيل البريطاني إثر معاهدات الحماية مع شيوخ الخليج، قبل قرن ونصف، وكما خدم الفرنسيون مصر بكتاب وصف مصر فإن الإنكليز خدموا المنطقة بعمل معرفي موسوعي إعجازي (دليل الخليج) تناول طبوغرافية وتاريخ الخليج (1906- 1600) لم يترك شاردة أو واردة على البر أو البحر إلا أحصاها، كان أهم ثمرات التحديث الانتقال من نظام القبيلة إلى الإمارة إلى الدولة، طبقا لعبدالمالك التميمي، وتزايدت وتيرة التحديث باستقلال الدول الخليجية، وارتفاع أسعار الطاقة الأحفورية المسخرة في تحديث الأبنية المجتمعية التقليدية في القطاعات التنموية.لذلك لا أتفق مع توجهات المفكرين العرب الذين لا يزالون أسرى هواجس الماضي الاستعماري في تحليلهم لمعوقات الحداثة العربية، كما يذهب إليه المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا في كتابه المرجعي المهم «مخاضات الحداثة» إلى أن الغرب الاستعماري فاعل كوني مهيمن كلياً على أسواق التقنية والفكر الحديث، ولا يسمح بالآخر شريكاً منافساً بل تابعا مستهلكا، وهو موقف يجد تأييداً من عامة المثقفين العرب: القوميين واليساريين والإسلاميين، ومع تفهمي لهذا الموقف وتبريراته إلا أني أراه موقفاً أيديولوجياً لا معرفياً موضوعياً، يعارضه واقع التنافس العالمي المرتكز على المصالح المتبادلة، كما ينقضه أن دولاً عديدة كانت محتلة وعاشت أوضاعاً أكثر بؤسا، لكنها حققت الحداثة: اليابان، والصين، والهند، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وتركيا، وسنغافورة، وهونغ كونغ، ودول نمور آسيا.دول الخليج، اليوم، منخرطة في مسيرة التحديث، ولا شكوى من أن الغرب يعرقل تقدمها، فالأغلبية الثقافية الخليجية لا تتملكها هواجس الماضي الاستعماري ولا ترى في الغرب معوقاً، بل المعوق الأكبر أن بأسنا بيننا شديد، وأزماتنا بما كسبت أيدينا لا بيد عمرو (أزمة الخليج نموذجاً) ولا يصح توصيف العلاقات الدولية ضمن معادلة (الهيمنة- التبعية) كما يشيع في الأدبيات الإسلامية واليسارية، فهذه مفردات من بقايا أدبيات النضال الثوري البائسة، الخليج شريك تجاري مهم ومؤثر في العالم، لا ضحية بائسة لا تملك أمرها، هناك تقاطع مصالح وهناك تناقضات لكنها تناقضات ترتبط باختلافات وجهات النظر، وهذا خلاف طبيعي سيظل قائماً حتى بين الحلفاء، وكذلك في العلاقات الثقافية، لا يصح وصف التأثيرات المتبادلة بين الثقافات بالتبعية والتغريبية كما يشيعه النقد الأيديولوجي العربي المعاصر.* كاتب قطري