عندما يفسد القضاء!
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 تأسست الأمم المتحدة كأكبر منظمة دولية في التاريخ البشري، وفي طليعة أهدافها المحافظة على الأمن والسلام العالميين، وذلك بعد أن ضاق العالم ذرعاً بويلات الصراع الدموي الذي اختتم بحصد أرواح عشرات الملايين من الأرواح غالبيتهم العظمى من المدنيين.وجاء التنظيم الحديث كنموذج فوقي للدولة القومية الحديثة، حيث عبّر ميثاق الأمم المتحدة عن دستور العالم، وتوزعت سلطاته على الجهاز التشريعي المتمثل بالجمعية العامة وحكومته التنفيذية المكونة من (15) عضواً في مجلس الأمن، بالإضافة إلى سلطته القضائية المتمثلة بمحكمة العدل الدولية، وتختص المحكمة كمثيلاتها من أروقة القضاء بفض المنازعات بين الدول الأعضاء، والأهم من ذلك حماية أرواح عامة الناس من الظلم والاضطهاد والجريمة المنظمة، ومن أهمها جرائم الحرب والإبادة الجماعية.وعلى الرغم من أن قرارات المحكمة الدولية لا تحمل صفة الإلزام فإنها تظل مؤسسة قضائية مكتملة الأركان وتباشر اختصاصاتها، وتصدر أحكامها بموجب القواعد القانونية انسجاماً واحتراماً لهيبة القضاء وسيادة القانون، وإن كان في بعده الأخلاقي والوجداني.
لكن هذه المحكمة، ورغم تنوع تشكيلها من مختلف قضاة دول العالم، خذلت البشرية وألحقت أقصى درجات العار بسلطان القضاء، ليس بسكوتها عن كثير من الجرائم الدولية فقط، بل من جراء الكيل بعدد لا يحصى من المكاييل، محاباة للقوى الكبرى النافذة حتى أصبحت أداة رخيصة بيد كبار السياسيين في العالم، فلا تحكم إلاّ على الضعاف من الدول، ولا تستأسد إلا على من لا ظهر له، ولا تكشّر عن أنياب القصاص إلا بإيعاز من حكومة العالم التنفيذية.وقد يحلو للبعض أن يرجع ضعف وهوان وحتى انعدام مصداقية القضاء الدولي لطبيعة النظام العالمي وتوازنات القوة فيه وهيمنة القوى المهيمنة عليه إضافة إلى الفزاغ التشريعي في تحديد اختصاصات وصلاحيات النظام القضائي الدولي، وهذا التبرير وإن كان صادماً للضمير الإنساني وخادشاً لحياء القضاء ونزاهته وعدالته وأيقونته كصمام أمان للمظلوم، وملاذ للبسطاء من الدول وشعوبها، فقد يتماشى مع سياق الواقع العالمي المعاش والمؤلم، إلا أن كل ذلك لا يبرّر ولا يغفر تهاون السادة قضاة العالم من القيام بمسؤولياتهم وإن لم تكن ملزمة، احتراماً للوجدان الإنساني وإكراماً لضمائرهم الشخصية على أقل تقدير.ويظل كل هذا العجز التاريخي في كفة وانبطاح المحكمة الدولية لتغريدة من الرئيس الأميركي في كفة أخرى، حيث انقلب ميزان القضاء ذليلاً خانعاً للمعزّب العالمي، وتم إلغاء جميع الإجراءات الخاصة بالتحقيق في جرائم حرب الجيش الأميركي عبر العالم وشعوبه المسالمة، وخاصة العرب والمسلمين من ضحايا الجنود والضباط الأميركيين في السنوات الأخيرة، بل إن القضاة نزلوا صاغرين لتلبية قرار ترامب في تحصين الجرائم الصهيونية من المحاكمة على مدى سبعين عاماً من حيث المبدأ.هذه الحالة البائسة في أهم مرفق قضائي في الوجود مصداق للقاعدة الشهيرة "إذا فسد القضاء أفسد معه كل شيء"، وها هو العالم يعيش الدكتاتورية الدولية بأبشع صورها في حين القضاء تحت أقدامها، وما قد يترتب على ذلك هو الفوضى العارمة وحياة الغاب، وجاء في المأثور بأن القضاة في الغالب هم في الجانب الأعوج من ميزانهم، حيث قاض واحد في الجنة واثنان في النار، ولكن من الواضح أن قضاتنا العالميين جميعهم في جيب ترامب!