لم يصمد النظام الأكثر نجاحاً في السودان للاحتفال بالذكرى الثلاثين لمجيئه إلى الحكم، ففي 30 يونيو 1989 أطاح جنرال غير معروف في «القوات المسلحة السودانية» يدعى عمر البشير بحكومة صادق المهدي المنتخبة ديمقراطياً، وهذا ما بدا عليه الأمر على الأقل من الخارج، أما في الواقع فقد كان ذلك انقلاباً إسلامياً عنيفاً بقيادة المتطرف اللبق الدكتور حسن الترابي الذي عمل بالتعاون مع العناصر العسكرية التي تشاطره الأفكار ذاتها، وبما يشبه عرضاً مسرحياً باهراً، تمّ اعتقال الترابي وبعض زملائه من المخططين في بداية الانقلاب، مما أدّى إلى حالة ارتباك بشأن من تولى حقاً زمام الأمور وأخفى الطبيعة الحقيقية للنظام الذي أفرزه الانقلاب.

غير أنه تبيّن على مرّ السنين بوضوح أن نظام البشير كان أساساً نظاماً إسلامياً. وإذا رغب أي شخص رؤية ما الذي سيحصل إذا نجحت حكومة من طراز «الإخوان المسلمين» في بسط قبضتها على قيادة دولة عربية على المدى الطويل، فإن السودان هو مثال أفضل من غزة الخاضعة لسيطرة «حماس» أو ولاية محمد مرسي القصيرة في مصر.

Ad

صحيح أن البشير انقلب في النهاية على الترابي في عام 1999، لكن كبار مساعدي الترابي من الكوادر الإسلامية (على سبيل المثال، علي عثمان طه، نافع علي نافع) استمروا في الاضطلاع بدور مهم لسنوات، ورغم أن حكام النظام أصبحوا أكبر سناً، وأثرياء بفضل تحقيقهم مكاسب غير مشروعة، استمر النظام في انتهاج الإسلام السياسي، على الأقل كأداة للحفاظ على مصداقيته أمام الشعب. ودليل ذلك على سبيل المثال، محاكمة معلمة بريطانية سمحت لطلابها بإطلاق اسم «محمد» على دمية بشكل دب عام 2007، أو سجن المواطنة المسيحية مريم إبراهيم في عام 2014 بتهم الارتداد عن الإسلام.

من المسؤول الآن؟

في 11 أبريل، أصدر المجلس العسكري السوداني الانتقالي المنشأ حديثاً بياناً أعلن فيه عزل البشير من السلطة، في حين بقي كثير من الأسئلة من دون إجابة. وبصرف النظر عن الشخصية التي أدلت بالبيان على شاشة التلفزيون الوطني- وهي وزير الدفاع عوض محمد بن عوف، أحد أركان الجهاز الأمني للنظام- فالسؤال هو مَنْ غيره يتولى زمام الأمور حالياً؟ فقد أتى البيان على ذكر «القوات المسلّحة السودانية» والشرطة و»جهاز الأمن والمخابرات الوطني» المهيب، و»قوات الدعم السريع» شبه العسكرية باعتبارها من المشاركين المؤسسيين في العملية الانتقالية، لكن مَنْ هم الأفراد الذين يتحكمون في ميزان القوة؟ فالضباط الأصغر سنّاً لديهم قواسم مشتركة أكثر مع آلاف المواطنين الذين نظّموا احتجاجات في السودان على مدى أشهر، لكن هل لديهم أي تأثير على عملية صنع القرارات الأمنية؟

أما بالنسبة الى ابن عوف، فهو لا يبدو مصلحاً على الأرجح، فبالإضافة لمواجهته العقوبات الأميركية الناجمة عن القمع العنيف الذي مارسه النظام في دارفور، لا يتمتع بن عوف بشعبية، كما أنه لا يشغل مركزاً مهماً في الجيش، وفي الواقع، أحاله البشير في الماضي إلى التقاعد من القوات المسلحة وعيّنه سفيراً في سلطنة عُمان قبل أن يعيده إلى الجيش في النهاية.

ومن المؤكد أن الشعب مسرور عموماً بواقع استجابة الجيش لندائه برحيل البشير، لكن كثيرين يشعرون بالقلق من أنّ إنشاء مجلس عسكري انتقالي هو محاولة جليّة لإثباط عزيمة الناس وإبقاء السلطة في يد الجهات الفاعلة السيئة نفسها التي كانت متواطئة مع حكم البشير؛ بعبارة أخرى كان الأمر بمثابة تصحيح مسار في ظل النظام نفسه أكثر منه انقلاباً للإطاحة بالنظام، ويمكن تفهّم هذا الانطباع الأولي إذ إنّ السلطات المؤسساتية الانتقالية المعيّنة حتى الآن لا تبدو قادرة على تلبية تطلّعات الشعب السوداني الذي عانى طويلاً.

كما أشار بعض النقاد إلى أن قرار المجلس باحتجاز البشير «في مكان آمن» ليس كافياً، وطالبوا بتقديمه إلى المحاكمة، وربما يشعر آخرون بالاستياء من إعلانيْن أساسييْن آخرين صدرا عن المجلس: الأول أن حالة الطوارئ ستستمر لمدة ثلاثة أشهر، والثاني أنه لن يتمّ إجراء أي انتخابات قبل مرور عامين من الآن. تجدر الملاحظة بأنّ حالة الطوارئ وحظر التجول يطرحان معضلة بشكل خاص إذ يبدو أنهما يمهدان الطريق أمام مواجهات مباشرة وفورية بين المجلس العسكري والمتظاهرين.

وستبرز أيضاً قريباً أسئلة ملّحة أخرى، فمع حلّ الحكومة على الصعيد الوطني والولايات، تطرح أسئلة من نوع مَنْ الذي سيدير شؤون البلاد بالفعل؟ وإلى أي مدى ستختلف الحوكمة فعلياً إذا بقي معظم الطاقم القديم في السلطة؟ ومَنْ الذي سيشرف على اقتصاد السودان وماليته في وقت يركّز فيه كثير من المتظاهرين على قضايا الدخل، ويتجاوز التضخم نسبة 60 في المئة؟ وما مصير «حزب المؤتمر الوطني» المهيمن وقائده المعيّن حديثاً مجرم الحرب المدان أحمد هارون؟ وفي حين تضمّن بيان المجلس اللغة المعتادة الداعمة لحقوق الإنسان، فهل حقاً ستكون هناك أيّ حريةٍ للتعبير أو التجمّع في السودان في ظل حالة الطوارئ والحكم العسكري الانتقالي؟

سودان «مرن»؟

على الرغم من أن نظام البشير بُني على أساس إسلامي صلب، فإنه كان مرناً من الناحية التكتيكية والسياسية بما يكفي لتصحيح مساره وفقاً لما تقتضيه الظروف. وبالفعل، كان نظاماً متهكّماً دعم أسامة بن لادن وروّج للجهاد في جميع أنحاء إفريقيا والعالم الإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم توصّل إلى اتفاق سلام مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان‎» العلمانية اليسارية في عام 2005، حيث تشارك معها السلطة (على وجه التقريب) لستّ سنوات وسمح لجنوب السودان بالانفصال عام 2011.

وبالتوازي، حتى في ظل تعاون البشير مع الولايات المتحدة لمواجهة تنظيم «القاعدة» وغيره من الجماعات الإرهابية، إلّا أنه استخدم حركة «جيش الرب للمقاومة» المكروهة ضد خصوم النظام في جنوب السودان وإفريقيا الوسطى، وتعاون أيضاً مع إيران لمساعدة إرهابيي «حماس». وفي وقت لاحق غيّر النظام سياسته فتخلى عن إيران كحليفة له وعاد إلى كنف الدول العربية في الوقت المناسب لدعم التدخل الذي قادته السعودية في عام 2015 ضد الثوار المدعومين من إيران في اليمن. وجزئياً، استمدّت هذه الحيل وغيرها من الألاعيب الجيوسياسية من واقع عدم تمكّن بلد غارق في مشقة اقتصادية فاسدة كالسودان، تجاهل شركاء أثرياء كالرياض وقطر وتركيا. لكن هل سيعتمد السودان الجديد المقاربة نفسها أم يتبنى توجهات سياسية

بغض النظر عمّا سيواجهه الحكام العسكريون الجدد في البلاد على المدى القصير؟ ثمة أسباب تدعو إلى التفاؤل في السودان. فخلافاً لبعض الدول العربية الأخرى التي شهدت انقلاباتٍ في السنوات الأخيرة (على سبيل المثال، عهد القذافي في ليبيا)، يتمتع السودان بمجتمع مدني نابض بالحياة ومعارضة سياسية حية، وبِحُرية تعبير وصحافة مصونة تقليدياً، ومغتربين موهوبين يضمّون أصحاب رؤية على غرار الملياردير السوداني-البريطاني مو (محمد) إبراهيم، ولم تكن التظاهرات المستمرة التي انطلقت في ديسمبر الماضي بقيادة أحزابٍ سياسية أو جماعات مسلحة، بل بقيادة جماعات المجتمع المدني على غرار «تجمّع المهنيين السودانيين» وسط تعاون حماسي من الشباب والنساء والفقراء في المدن. وقد جاءت الضغوط الرامية إلى الإطاحة بالبشير من الجهات الفاعلة المحلية لا من بعض «الأيادي الخفية» الأجنبية. وثمة سوابق تاريخية واعدة أيضاً؛ ففي عامي 1964 و1985، أدّت التدخلات العسكرية إلى استعادة الحكم الديمقراطي إلى السودان (وإن كانت لفترة وجيزة)، وبالتالي من المحتمل أن يؤدّي التحرك العسكري الأخير إلى نتيجة جيدة.

ومع ذلك، إذا كان البلد الذي يتمتع بإمكانات الثراء إنما المعدم بشكل دائم سيحظى بمستقبل أفضل، فعليه أن يكسر الحلقة المفرغة التي علِق فيها منذ الستينيات: ولا سيما الحكم العسكري الذي أعقبه حكم فاسد وغير كفؤ في ظل الطبقة السياسية المنهكة والقديمة نفسها. فالشعب الجامح الذي يغلب عليه عنصر الشباب بحاجة إلى نظرة عالمية جديدة وقادة جدد قادرين على إيجاد حلول جدّية للمشاكل الرئيسة المتمثلة في التنمية والفقر والفساد وتغيّر المناخ التي يواجهها سكان البلاد البالغ عددهم 43 مليون نسمة.

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن شريحة الجماهير التي تشاهد الأحداث الجارية في السودان تمتّد خارج الخرطوم بكثير، فقد حفّزت أشهرٌ من العمل السياسي المتضافر من المتظاهرين المسالمين في الجزائر والسودان على الإطاحة بقائدين حافظا على منصبيهما لفترة طويلة وإلى تدخل عسكري من سلطات تطلق وعوداً غامضة بالإصلاح. يجب أن تكون هذه الأحداث بمثابة جرس إنذار لقادة المنطقة الذين يعتقدون أنهم يستطيعون الاستمرار في تخفيف احتقان شعوب ثائرة وجائعة وغاضبة عبر استعمال الصيغ نفسها إلى أجل غير مسمى.

* ألبرتو فرنانديز