يبدو أن الكوريتين والولايات المتحدة تتجهان، ولو ببطء، نحو السلام واتفاق لنزع الأسلحة النووية، فقد ذكر الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن أن هدفه التوصل إلى إعلان السلام قبل نهاية رئاسته (في 2022)، وعقد لهذا الغرض عدداً من القمم مع الزعيم الكوري الشمالي في عامَي 2018 و2019، كذلك وافق ترامب في قمة سنغافورة على عقد اتفاق سلام مع الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، وسيسعى خلال ما تبقى من ولايته إلى التقدّم نحو هذا الهدف.تسعى الكوريتان سعياً حثيثاً للتوصل إلى إعلان سلام، إذ أكّد مون أن هدفه تحقيق إعلان السلام هذا قبل نهاية رئاسته، كذلك اتُخذت على هذا الدرب خطوات عدة، منها فتح مكتب ارتباط في كايسونغ بكوريا الشمالية وبدء العمل على مشاريع سكك حديدية بين الكوريتين، مع أنها نالت موافقة الولايات المتحدة بتردد، ومن الطبيعي أن ينشأ هنا السؤال: لمَ تسعى كوريا الجنوبية إلى هذا الإعلان بحماسة شديدة مع أنه يشكّل تدبيراً ناقصاً لن يؤدي إلى أي تبدّل جذري في التوازن العسكري ولن يترافق مع تفكيك نهائي لخطر الأسلحة النووية الكورية الشمالية؟
أولاً، لا تريد حكومة كوريا الجنوبية العودة إلى تبادلات "النار والغضب" التي شهدناها عام 2017 حين بدا أن سيئول قد تعلق في حرب بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، في حين راح ترامب والزعيم الكوري الشمالي يتبادلان التهديدات بمهاجمة بعضهما، حيث أجرى كيم عشرين اختباراً لصواريخ بالستية، فضلاً عن اختبار لقنبلة هيدروجينية، خلال اثني عشر شهرا الأولى من عهد ترامب في البيت الأبيض. في المقابل أمر الرئيس الأميركي بتعزيز التدريبات وحركة الأصول الاستراتيجية والأسلحة إلى المنطقة، وخلال هذه المرحلة اعتبرتُ خطر وقوع خطأ في الحسابات والتصعيد كبيراً جداً، فلم يسبق لي أن سمعتُ مقداراً مماثلاً من الكلام عن الحرب داخل أوساط واشنطن طوال السنوات الثلاثين التي أمضيتها في العمل السياسي، أما بالنسبة إلى حكومة كوريا الجنوبية، فيُعتبر أي وضع أفضل من حرب أخرى في شبه الجزيرة الكورية، لذلك تواصل السعي بدأب لتفادي فقدان الزخم، الذي نجم عن الألعاب الأولمبية الشتوية، من خلال لقاءي قمة في سنغارفورة وهانوي.ثانياً، تدفع السياسات الداخلية إدارة مون نحو إعلان سلام مماثل، فمنذ تسلمه زمام السلطة في استفتاء شعبي عقب سحب الثقة من بارك غن هي في ديسمبر 2016، تعتقد حكومة مون أن سياساتها الميالة إلى التحاور مع كوريا الشمالية تمثّل حقاً إرادة الشعب، وعلاوة على ذلك يشعر التقدميون في البيت الأزرق أنهم يعوّضون الوقت الضائع بعد تسع سنوات من الحكومات المحافظة في كوريا الجنوبية خلال عهد بارك وسلفها لي ميونغ-باك وثماني سنوات من سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي اتبعتها إدارة أوباما، علماً أنهما لم تحققا أي تقدّم في معالجة الوضع المتفاقم مع كوريا الشمالية الذي أدى إلى أزمة الحرب خلال الأشهر الاثني عشر الأولى من عهد إدارة ترامب. من وجهة النظر التقدمية هذه، ما كان الوضع ليتبدّل بغض النظر عن هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، فإهمال كوريا الشمالية خلال العقد الماضي كان سيقود إلى موجة الاستفزاز ذاتها من بيونغ يانغ حتى لو وصلت هيلاري كلينتون إلى سدة الرئاسة، ونتيجة لذلك، كان من الضروري أن تضع سيئول خطة لتصحيح المسار.أما السبب الثالث وراء سعي حكومة مون الأحادي الطرف إلى التحاور، فيرتبط بالتلاقي الفريد بين العقيدة الكورية وخروج السياسة الأميركية عن المألوف، إذ يندفع أعضاء أساسيون في الحكومة الحالية في سيئول إلى هذا المسار بسبب قناعتهم الوطنية الإثنية العميقة بأن مصدر كل علل بلدهم ينبع من انقسام الشعب الكوري المتجانس بسبب قوى خارجية، ولا شك أن تحقيق المصالحة ما بين الكوريتين أولوية، لكن هذه الخطوة اصطدمت بمعارضة الراعي الأمني، الولايات المتحدة، طوال فترة الحرب الباردة وازدادت تعقيداً بسبب الخطر النووي، ولكن مع ترامب، هذا الرئيس المتعالي الذي يفخر بالتخلي عن كل السياسات التقليدية، يرى الكوريون الجنوبيون فرصة فريدة للسعي وراء المصالحة ما بين الكوريتين، فتستطيع سيئول الترويج لأجندة تدعو إلى قمم بين الولايات المتحدة وقادة كوريا الشمالية، لإعادة بناء المشاريع الاقتصادية بين الكوريتين، والتوصل إلى إعلانات سلام، في حين يُنسب الفضل في كل هذه الإنجازات بالكامل إلى الرئيس الأميركي.كان انسحاب الولايات المتحدة سيولّد صدمة في كوريا الجنوبية، وكان سيؤدي إلى اضطرابات داخلية مع مهاجمة المحافظين التقدميين لخسارتهم الولايات المتحدة، في حين سينادي آخرون بتحرر كوريا المرجو منذ زمن من نير الولايات المتحدة، ولكن بعد المعمعة الأولية، من الممكن أن ينجو الائتلاف رغم انسحاب ترامب، وهكذا تواصل الولايات المتحدة التزامها صورياً بأمن كوريا الجنوبية متخلية عن وجودها التقليدي الملموس الذي قد يشكّل آلية إشعال شرارة الحرب.أما الكلفة الفعلية، فستتجلى من خلال استراتيجية الولايات المتحدة الطويلة الأمد في آسيا، ولا شك أن القارة الآسيوية الخاضعة اليوم لهيمنة الصين، التي تسعى إلى الاستحواذ على تايوان أيضاً، ستختبر تداعيات خطيرة في مسألة نشر النفوذ من جراء تراجع قوة الولايات المتحدة ووجودها في آسيا.قد يتطلب نزع الأسلحة النووية رفع العقوبات، وتأسيس مكاتب سياسية، وضمانات أمنية سلبية، ومساعدة في مجال الاقتصاد والطاقة، لكن الولايات المتحدة يجب ألا تستخف بقدرات الائتلاف، منها: أولاً، نشر الجنود، ووضع هذه القوات، وجهوزيتها. ثانياً، صحيح أن إعلان السلام خطوة مرغوب فيها بما أنها تؤدي إلى تبدل البيئة المحيطة بشبه الجزيرة الكورية، إلا أن التفاوض بشأن اتفاق يجب ألا يشمل أي وعود، سواء صراحة أو في السر، بشأن تبدل طبيعة القوات في شبه الجزيرة. ثالثاً، ينبغي أن يحتفظ الكونغرس من خلال عدد من التشريعات بصلاحيات الإشراف وتحديد الميزانية المتعلقة بالتغييرات في مستويات القوات في كوريا الجنوبية. رابعاً، من الضروري أن يخضع أي قرار يقضي بخفض القوات أو سحبها لمراجعة عواقب قرارات مماثلة، سواء إيجابية أو سلبية، بين الوكالات وفي الكونغرس. خامساً، يلزم أن يقود المجتمع الاستخباراتي عملية تقييم وطنية شاملة لتأثيرات خطة مماثلة في أمن شبه الجزيرة والمنطقة قبل اعتبار أي قرار نهائياً. وأخيراً، صحيح أن طبيعة القوات الأميركية في الخارج لا تخضع لموافقة الأمم المضيفة، لكن ينبغي أن تتشاور الولايات المتحدة عن كثب مع حلفائها الإقليميين بشأن نظرتهم إلى انعكاسات تغييرات مماثلة على أمن الولايات المتحدة ومصداقيتها بصفتها قوة منطقة المحيط الهادئ الآسيوية التي يُنسب إليها الفضل عموماً في الحفاظ على الاستقرار والازدهار في المنطقة.* فيكتور د. تشا* «ناشيونال إنترست»
مقالات
ترامب وكوريا الشمالية والإسراع نحو السلام
23-04-2019