شهدت القاعة المستديرة في مركز جابر الأحمد الثقافي، أمس الأول، فعالية "حديث الاثنين"، ضمن الموسم الثقافي للمركز، وتمت استضافة د. أماني البداح، التي قدمت محاضرة بعنوان "الفنون المعاصرة لتقييد الفكر... رؤية في التفكير النقدي"، وأدارتها الروائية بثينة العيسى.حضر المحاضرة جمع من المهتمين، وشرحت د. البداح خلالها عددا من أوليات التفكير النقدي التي تفضح حيلنا في تقييد حرية الآخرين في التفكير، وتنافسنا المحموم في مواصلة تقليص مساحة التفكير السليم.
بداية، قالت العيسى: "نحتاج إلى أن نكون قادرين على رؤية الحقيقة لكي نبقى أحرارا، ونحتاج إلى مهارات التفكير النقدي لكي نرى الحقيقة. في زمن تزوير التاريخ، ومنع الكتب واعتقال الأصوات المخالفة، واغتيالها أيضا، كيف لك أن تتصدى لجهود مؤسسية تتمثل في الأجهزة الإعلامية، والمناهج التعليمية، ومنابر الجوامع، وكرنفال الأكاذيب على قنوات التواصل الاجتماعي، لكي تصدق ما تراه، أو حتى لترى ما تراه؟".وأضافت: "نحتاج إلى التفكير النقدي لأننا معرضون طوال الوقت لغسيل الأدمغة، لأن سيكولوجيا الجماهير هي التي ترسم اتجاهات المستقبل، لأن المناهج الدراسية تقوم على التلقين، ولأن العلاقات تقوم على مبدأ السمع والطاعة". وتابعت: "نحتاج إلى التفكير النقدي لأننا قابلون للمصادرة طوال الوقت، ولأنه من السهل أن تتحول إلى دمية خشبية بخيوط غير مرئية، أو بيدق على رقعة شطرنج، في معركة لم تخترها أصلا، نحن بحاجة إلى التفكير النقدي لأن الحقائق عرضة للتحريف، والمنطق مليء بالمغالطات، ولأن الكثير منها يحتكم إلى السلطة، لا إلى العقل".
التفكير النقدي
مـن جـــانـــبــها، توجهت د. البداح بالشكر إلى مركز جابر لاستضافتها، مضيفة: "في عالم التواصل المستمر، يتنافس على انتباهِك مراسلو القنوات الإخبارية، ومروجو العلامات التجارية، وموزعو دور النشر، والطواقم الإعلامية للسياسيين، ومسوقو الأبحاث العلمية، والمتبارزون على المنابر، وناقلو حكايات الحي والأسرة الممتدة. كل منهم يريد قطعة من عقلك، وليس منهم من يريد أن يمنحك فرصة التفكير المتأني فيما يأمل منك اتباعه". وأشارت إلى أن كل الفنون المعاصرة الموجهة لتغيير السلوك هي محاولات دؤوبة للتحايل على التفكير السليم، ولأسر منطقك في أضيق نطاق ممكن. وأنت أيضا، تمارس هذه الحيل، لأنك تعلمت أن إسكات أطفالك أسهل من تربيتهم بالحوار والتفاهم، وأن إرهاب موظفيك أسهل من تدريبهم والإصغاء لآرائهم، وأن زيادة عدد متابعيك أفضل من زيادة عدد مبارزيك، وأن رفع مبيعاتك أهم من التحقق من جودة سلعك، وأن قدرتك على إخراس معارضيك أجدى من قدرتك على إقناعهم بالحجة".واستدركت: "وللتأكيد فإن أغلب هذه الحيل تقع ضمن اهتمام (ومهام) علم النفس السلوكي ونظريات التسويق، غير أن للفلسفة دورا أوليا هنا، وهو كشف الأنماط التي تقع خلف هذه الحيل (وهذا موضوع التفكير النقدي)".وقالت: "أما النمط الذي أود كشفه هنا فهو التقليص الممنهج لمساحة حرية التفكير، وتعديل سلوكنا باتجاه الانغماس الكلي بشعار حرية التعبير. وهو ما أدعي أنه حيلة العصر الأولى، وما أدعي أننا جميعا بدرجة أو بأخرى نساهم في تدعيمها. وهو ادعاء لن أقيم الحجة عليه، وإنما أقرره هنا في عرض محددات التفكير النقدي وأدواته".واستطردت: "أشاعت موضة التفكير الإيجابي فكرة التلقي: لا تقاوم الفكرة، كن متلقيا، استجب، كأنما في حفلة جماعية للتنويم المغناطيسي. ولست في نقدي لموضة التفكير الإيجابي، أدعو للتشاؤم أو الكآبة، وإنما للتريث والفحص والتوقف عند شكل ومحتوى ما يحاصرنا من أفكار".وزادت د. البداح: "وللتأكيد، فإن التفكير النقدي ليس حربا دائمة"، مبينة أنه من الناحية التقنية، التفكير النقدي هو محاولة النفاذ إلى مسلماتنا وافتراضاتنا، تحيزاتنا، أنماط التشويه التي نتعرض لها، الأسس التي عليها نبني آراءنا، وكيف يمكن أن نتخطى المحاولات المستمرة لسلبنا القدرة على التفكير السليم".وأردفت: "هنا أود أن أشير بشكل خاص لضرورة التمييز بين التفكير السليم وجودة الأداء المسرحي. بحكم تركيبنا النفسي كبشر وتنشئتنا الاجتماعية، يبدو أن الحظوة في الإقناع للرجل الأطول، ذي البشرة الأكثر بياضا، الذي يملك صوتا أعمق، الأكبر سنا، وذو الشعر المفضض، ذو الوجه الأكثر تناسقا"، موضحة أن "ما نفعله محكوم بتحيز معين، فالتحيزات تجعلك تتوقع سلوكيات معينة من البشر".الجدير بالذكر أن د. البداح نائبة المدير العام للإدارات والبرامج المساندة في مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وأستاذ مساعد في قسم الفلسفة بجامعة الكويت من 2001 على 2014، وتقع اهتماماتها البحثية في مجالات فلسفة وتاريخ العلوم، وفلسفة الطب، وأخلاق البحث العلمي، والنظرية التأويلية، والمنطق الصوري، والمنطق غير الصوري.