أؤيد وأشجع دور النشر الشبابية جدا، فهي إعلان صارخ عن إفلاس أجيال انكفأت على نفسها، وأهلكتها معاركها الصغيرة الشخصية التافهة، كما أنها تعلن سقوط الهالة الكهنوتية التي تحيط بالنص والمؤلف جميعا، والتي وضعتها أجيال متوالية في الثقافات العربية منذ مطلع القرن العشرين حول ما يستحق وما لايستحق أيضا. دور النشر الشبابية تعمل كذلك، وإن بلا وعي من أصحابها، على تحرير الإبداع من شروط النشر الحكومي، صاحب الكثير من الخطوط الحمراء، التي تضيق الأفق على المبدعين. وهي أيضا تعلن اهتمامات جيل يصر الجميع على الانتقاص منه، والسخرية من اهتماماته كما يحدث بصورة تاريخية مكرورة. الفرق أن هذا الجيل نشأ وتفتح وعيه في ظل ممكنات ثورتي التكنولوجيا والاتصالات، التي سهلت أشياء كثيرة منها صناعة النشر.لكن معظم ما تقوم به هذه الدور حتى الآن هو عصيان واسع النطاق، وكشف الحجاب عن رغبة عميقة في هدم الحدود والضوابط، والإعلان عن وجود الذات التي تكاثف حولها ضباب الإنكار والتسفيه، دون أن يبدو ما تقوم بتأسيسه واضحا أو مالكا لأدواته، وهنا يكمن الاعتراض. متى ستنتقل هذه الدور إلى سؤال الكيف ومستوى الإبداع بالنظر لتراث الأنواع الأدبية؟
فيما يتصل بالرواية هناك أزمة من نوع خاص؛ فالرواية كنوع سردي تختلف بوضوح عن الثرثرة اليومية أو الشخصية التي يمارسها بعضنا مع بعض. الرواية بناء مقصود للأحداث التي يجب أن تكون محملة بعمق معرفي كبير، وقدرة نسبية على تجاوز الذات وعدم التمحور حولها، حتى إن استفاد الروائي ــ وهذا طبيعي ــ من خبراته الشخصية. الرواية من زاوية ثانية هي عملية تمثيل لغوي للأحداث، أي أن أداتها الأساسية هي اللغة، وعلى من يتصدى لكتابة الرواية أن يكون متمكنا من أداته، كي يستطيع التلاعب بها ومعها في تشكيلاته السردية. صحيح أن هناك وظيفة التصحيح والتحرير، لكنها لا تعفي الكاتب من امتلاك ناصية اللغة بغرض امتلاك حرية الخيال الذي تصوغه اللغة بالأساس.الأزمة الثانية التي تتصل باللغة أيضا هي حالة السيولة غير الواعية التي ينزلق إليها الكتاب الشباب. بعبارة أخرى؛ يجب على الروائي أن يكون قادرا على مقاومة الثرثرة وحالة التداعي اللغوي غير الدال، فليست كل الأحداث والتفاصيل تستحق أن تحكى، وليس كل حكي للأحداث يمكن أن يسمى رواية. نحن نحوم حول فكرة الوعي الفني بتراث النوع والقدرة على تقديم الجديد في البناء والمضمون كليهما.ولعل حالة الثرثرة الروائية هي ما أدى في كثير من الأحيان إلى ما يسميه الصديق سعيد يقطين "البدانة الروائية"، التي أصبحت سمة غير مقبولة في كثير مما يصدر تحت اسم "رواية".اللعبة ليست سهلة، فالتحرر من القيود ومقاومة سلطة الآباء والمجتمعات المحافظة، يجب أن يكون مقترنا بتصور إبداعي يتشكل عبر الزمن، حول الأنواع الأدبية وأهمية فعل الكتابة وفنياتها. وهو الوعي الذي أحسب أن دور النشر الشبابية يمكنها أن تسهم في تشكيله.
توابل - ثقافات
تنوير : أزمة الرواية الشبابية
25-04-2019