مُت فارغاً
كلما قرأنا البيت الأشهر: إذا الشعب يوماً أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر، تذكرنا قائله الذي خلّده هذا البيت، ذلك الشاب التونسي الذي ودع الدنيا مبكراً في الخامسة والعشرين من عمره، بعدما ذاق منها ما ذاق في عمره الغض، أبوالقاسم الشابي (1909- 1934).وما إن تمر ذاكرتنا، ولاسيما المصريين من القراء، على تلك العبارة التي لا يكاد أحد في مصر لا يحفظها: "لو لم أكن مصرياً لوددتُ أن أكونَ مصرياً"، حتى تتداعى إلينا صورة الزعيم الوطني الشاب مصطفى كامل (1874- 1908)، ذلك الزعيم الذي ترجّل عن صهوة جواد الدنيا في عمر الـ34 عاماً، بعدما ملأها كفاحاً ونضالاً، وأعطى دروساً في الوطنية امتدت أجيالاً متعاقبة من بعده، ولا تزال إلى اليوم.وشاب ثالث نتذكره فور سماعنا النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي"، هو ذلك الشاب الذي بعث بأنامله وعقليته النغمية المبتكرة النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي كله، إنه الراحل سيد درويش، (1892- 1923)، الذي قد لا يعرف الكثيرون أنه رحل عن 31 عاما فقط، بعدما ملأ الدنيا وشغل الناس في زمنه وبعده بعقود طويلة، بعدما ترك إرثا كبيرا من ألحانه السابقة لعصره.
وقس على هؤلاء أسماء ناصعة في مختلف المجالات، لا يتسع المقام للحديث عن إسهاماتها وما تركته للناس من إرث باق، ومنها طرفة بن العبد، وهاشم الرفاعي، وسيبويه إمام النحو، والمنشاوي ذو الصوت الملائكي في القرآن، والنووي صاحب كتاب رياض الصالحين، كلهم طويت صفحة حياتهم مبكرا، في مرحلة الشباب أو بعدها بقليل. حسنا كلهم رحلوا شباباً أو بعد الشباب بقليل، فماذا نريد أن نقول؟ نريد أن نخلص إلى أن العمل المؤثر الذي يخلفه الإنسان من بعده ويظل سببا في تذكُّر الناس له غير مرتبط بعمر، فهناك أناس يرحلون عن 60 أو 70 عاما وأكثر، دون أن يتركوا أثرا أو ذكرا من بعدهم، أي أن المنجز البشري لا علاقة له بطول العمر أو قصره، وعلى ذلك فالمرء مطالب بألا يؤجل عملاً يستطيع أن يفيد به أهله ووطنه، بل البشرية كلها إن استطاع، قبل أن يدركه الرحيل، الذي قد يأتي بغتة دون أن يترك أثرا أو نفعا أو ينثر خيرا هنا أو هناك، وكما قال الرافعي: "إذا لم تزد شيئا إلى الحياة كنت أنت زائدا عليها"، وما أكثر هؤلاء الزائدين! فلنبدأ الآن: قم فبادر وانشر شيئاً مفيداً على صفحة حياتك، انشر معلومة مفيدة، انصح غيرك، اعرض خبرة حياتية تفيد بها غيرك.قبل نحو عام استعرض الزميل الكاتب الصحافي، د. حسام الدين سعدون، قراءته لكتاب بعنوان "مت فارغا"، والذي قصد فيه كاتبه أن على المرء أن يستثمر كل جهده وعلمه وطاقته فيما فيه نفع للناس، ويحاول ألا يموت إلا وقد قدم كل ما يستطيع من خير ونفع للبشرية من بعده. وخلاصة ما جاء في هذا الكتاب القيّم: "تخيل كمّ الإفادة التي نجنيها من المرور على معرفة حقيقية وخبرات عملية لدى الآخرين، ألا أدلك على بعض ما يمكن أن تقدمه للبشرية بدلاً من وقوفك ساكتاً أو سلبياً؟ شارك في عمل تطوعي، انشر محتوى كتاب، أسّس أو شارك في نادٍ للقراءة، عَلّم غيرك لغةً جديدة، ثقّف غيرك، شارك خبراتكَ العملية مع الآخرين، ازرع شجرة، تصدّق ولو بالقليل، انصح شخصاً، ساعد محتاجاً، اكفل يتيماً... لا تترك في ذهنك فكرة مفيدة للآخرين أو عمل خير قبل موتك... ومُت فارغاً".