ما قل ودل: الأمة بأجيالها القادمة مصدر السلطات جميعا
دستور الكويت كان حاسما وقاطعا في الأخذ بنظرية سيادة الأمة بأجيالها المتعاقبة ورفضه رفضا قاطعا لنظرية سيادة الشعب، التي تغلّب إرادة الجماعة التي تحكم، أي الأغلبية اللازمة لإقرار قانون ما في زمن ما لمصلحتها وحدها، دون نظر إلى الأجيال القادمة.
حقوق الأجيال القادمةتناولت في مقال الأحد الماضي تحت هذا العنوان "حقوق الأجيال القادمة"، حرص الدستور عليها في ديباجته، وفي المادة 108 منه، والتي نصت على أن "عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها، ويرعى المصلحة العامة في أعماله بالمجلس ولجانه"، وهو خطاب من المشرع اختص به كل نائب من أعضاء مجلس الأمة، والمصلحة العامة بمعناها الأشمل في صالح الجيل الحالي، وصالح الأجيال القادمة، كما تطرقت إلى هذا الصالح في صدر الإسلام، في ولاية الفاروق عمر بن الخطاب عندما خالف نصا قرآنيا في توزيع الغنائم لمصلحة هذه الأجيال، وهو نص يثير تساؤلا مشروعا هو: لماذا اختص السلطة التشريعية برعاية المصلحة العامة وهي تاج على رأس كل مسؤول وعلى رأس كل سلطة دستورية؟
ولعل ما يعزز هذا التساؤل ما افترضه أستاذنا وأستاذ الأجيال كلها د. عبدالرزاق السنهوري، من أنه "يفترض في السلطة التشريعية- وهي هيئة مشكلة من عدد كبير من الأعضاء يصعب تواطؤهم على مصلحة خاصة، وهي كذلك تنوب عن الأمة كلها- التنكب عن الأغراض الذاتية".وذلك في مقاله المنشور بمجلة مجلس الدولة الصادرة في عام 1952 تحت عنوان "مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية".المادة 6 من الدستوروأعتقد أن دستور الكويت لم يفته هذه الحقيقة، وأن هذا النص يعتبر مكملا ومتمما للمبدأ الدستوري الذي قرره في المادة (6) التي تنص على أن السيادة للأمة وهي مصدر السلطات جميعا، فجاءت المادة (108) تنص على أن النائب يمثل الأمة بأسرها، لهذا اختص الدستور السلطة التشريعية بهذا الخطاب، بل اختص كل نائب به، دون أي سلطة أخرى أو أي مسؤول آخر، لأن السلطة التشريعية بكامل جهازها الإداري، وكل مسؤول فيها إنما ينفذ القوانين التي تقرها السلطة التشريعية، ليس لمصلحة الجيل الذي يمارس فيه المجلس صلاحياته، وللمدة الزمنية التي انتخب بها، بل لصالح الأجيال كلها، ودوره يقتصر على تنفيذ هذه القوانين فورا على المخاطبين بها من الجيل الحالي، ودور السلطة القضائية هي الفصل في المنازعات التي تشجر بين أبناء هذا الجيل وحده.الأمة مصدر السلطات جميعا والواقع أن المبدأ الدستوري الذي أخذ به دستور الكويت هو ثمرة تطور تاريخي طويل في أنظمة الحكم في العالم كله إلى أن بزغ فجر النظام الديمقراطي في العالم كله، والذي أصبح العالم كله يتغنى به ويرفع شعاره، حتى الدول التي يسودها حكم الفرد الواحد، فإنها تتخذ أشكالا شتى للديمقراطية، بعد أن أفرغت الحكم الديمقراطي من مضمونه.وقد تبوأ مبدأ سيادة الأمة مكانه اللائق به في نظرية العقد الاجتماعي، حيث كان روسو، مؤسس هذه النظرية، يرى أن الأمة في ممارسة سيادتها طبقا لهذا المبدأ وحدة واحدة لا تتجزأ، ولو مارستها من خلال حاكم فرد أو جماعة، ولا تعلو إرادة الفرد على إرادة الأمة صاحبة السيادة، ولو كان وكيلا عنها أو ممثلا لها.ويرتب الفقه الدستوري على هذا المبدأ نظرة أوسع وأعمق من النظرة السطحية لهذا المبدأ الذي يقصر الأمة على هيئة الناخبين في فترة زمنية محددة، أنها دائمة مجردة ومستقلة عن أفرادها، وهي بهذا المعنى لا تقتصر على جيل معين في فترة معينة، إنما هي امتداد لأجيال قديمة، وهي في حاضرها تراعي الأجيال المقبلة وتداخلها في حسابها عن تصرفها، وعلى ذلك فإن هيئة الناخبين منظوراً إليها في فترة معينة قد لا تكون معبرة تماما عن إرادة الأمة الحقيقية، ومن ثم فلا يعتبر رأي هذه الهيئة هو الإرادة السليمة للأمة، فقد تخالطه الأهواء والنزوات العارضة التي قد تبدو من حين لآخر من قبل هيئة الناخبين. (الدكتور ثروت بدوي في كتابه "الأيديولوجيات السياسية" ص212-213).موقف الدستور الكويتي من النظريتينوالواقع أن دستور الكويت كان حاسما وقاطعا في الأخذ بنظرية سيادة الأمة بأجيالها المتعاقبة ورفضه رفضا قاطعا لنظرية سيادة الشعب، التي تغلب إرادة الجماعة التي تحكم، أي الأغلبية اللازمة لإقرار قانون ما في زمن ما لصالحها وحدها، دون نظر إلى الأجيال القادمة.وكان دستور الكويت في أخذه بمبدأ سيادة الأمة، بكل أجيالها المتعاقبة، يرجع إلى ما كشفت عنه المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 106 لسنة 1967 بشأن احتياطي الأجيال القادمة من أن الكويت تعتمد في دخلها القومي الرئيسي على النفط، وهو مصدر ناضب، وهو ما تناولناه في مقال الأحد الماضي.حيث تذهب نظرية سيادة الشعب إلى أن كل ناخب يملك جزءا من السيادة، وأن الناخبين يستطيعون بناء على سيادتهم أن يفرضوا آراءهم على النواب الممثلين لهم، ويكون للناخبين في دائرة معينة حق إعطاء تعليمات ملزمة لنائبهم في البرلمان، ويجب على النائب أن يتقيد بهذه التعليمات في تصرفاته البرلمانية، لأنه وكيل عن ناخبيه والوكيل ملزم باحترام إرادة الموكل، وإذا تجاوز حدود هذه الإرادة يجوز عزله وانتخاب وكيل جديد لأنه مسؤول أمام ناخبيه.وهو ما حدا بالدستور إلى ما تنص عليه المادة 108 منه من أن النائب يمثل الأمة بأسرها ويرعى المصلحة العامة، بمعناها الأشمل الذي يتمثل في الأمة بأجيالها المتعاقبة. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
هيئة الناخبين في فترة معينة قد لا تكون معبرة تماماً عن الإرادة الحقيقية للأمة