«الكتابة الإبداعية، كتابة معاصرة» (1-2)
جئت إلى الكتابة كما الكثير من أبناء جيلي من الأدباء العرب والعالميين عبر بوابة شغف القراءة وحلم الكتابة. وتالياً عبر الإيمان بأهمية ودور الفن في تشكيل وعي الإنسان، ومساعدته لفهم قوانين الواقع، وتحمّل اضطراباته وقسوته والتكييف معهما. ومع نشر قصتي القصيرة الأولى "إن شاء الله سليمة"، بتاريخ 17 يناير 1978، في جريدة الوطن الكويتية، بدأ الطريق يختلف: يختلف في وعيي وتصوّري، ويختلف بخطوي وحصى عثراته، وبما يصطف على جانبيه بشراً وحجراً.مع نشر القصة الأولى، بدأتُ علاقاتي ووصلي واتصالي بأصدقاء كثر من مختلف أقطار الوطن العربي، قصاصين وشعراء وروائيين ومسرحيين وصحافيين وإعلاميين، وكان الجميع يؤمن ويثمّن دور الموهبة في الكتابة. وكان كل كاتب يسعى إلى الأفضل، طامحاً إلى تطوير ذاته عبر القراءة المعمّقة والاطلاع والاستمرار في مغامرة الكتابة، إلى جانب حضور مؤتمرات وموائد نقاشات لا تنتهي. مثلما يعمل فترة طالت أو قصرت على نصٍّ إبداعيٍ، طامحاً إلى نشر إصدار جديد. لكن، البعض القليل، كان يضيف إبداعاً جديداً لافتاً لرصيده واسمه مع كل إصدار جديد له. وبعضٌ آخر ظل يمتح من بئر كتاباته ذاتها، بينما بعض ثالث، ظل يكتب القصة نفسها والرواية نفسها ويردد القصيدة نفسها. وأخيراً ظل بعض بائس يهبط بخط بيان إصداراته مع كل إصدار جديد له حتى تلاشى.بعد ما يزيد على أربعة عقود من الاشتغال بالقراءة والكتابة يوميا، أجدني أقول بقناعتي بإن الكتابة اختيار شخصي، لكن شيئاً قدرياً يساير خطو الكاتب بانجذابه وانغماسه واستمراره في عالمها. شيءٌ يأخذه إلى الوحدة: فهو وحيد في قراءاته وهو وحيد في كتاباته، وهو وحيد في همٍّ يشغل عليه لحظته بسؤاله عن كيفية كتابة نصٍّ إبداعي جديد. وإذا ما أُخذ بعين الاعتبار وضع الكاتب العربي الصعب بعدم تفرغه، وصعوبة وضعه المعيشي، وانخفاض سقف الحرية الخرساني الذي يكاد أن يطبق عليه، فإن الكتابة تصبح وجعاً مقيماً بأنفاسه وخطوه، وأبداً تبقى حلماً مغوياً على البعد.
كتبت ما كتبت، في القصة والرواية والمسرح والنقد والسيرة الذاتية، وخيال هاجسٍ يلوح لي على القربِ حيناً وفي البعد أحياناً أخرى، بأن هناك قارئاً واعياً وحاذقاً ينتظر نصي. وهذا ما كان يأخذني إلى مغامرة قصة أو رواية مختلفة، على مستوى الشكل والمضمون، تكون قادرة على محاكاة الواقع بشكل فني متجدد. صعبة هي معادلة الكتابة، وأصعب منها بالنسبة لأي كاتب اتخاذ قرار بإصدار كتاب. أي إصدار جديد إن لم يضف لرصيد الكاتب فسيأكل منه. لذا كنت ولم أزل أخشى الكتابة لأنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولا تعرف ولا تعترف برصيد كاتب كبُر أو صغر. وفي كل مرة، ولحظة اقترابي من الخوض في كتابة جديدة، أعود ذلك الطالب الذي يبدأ لتوه خطواً جديداً بمغامرة كتابة جديدة، بغية إصدار مجموعة قصصية أو رواية لافتة في جدة فكرتها وشكلها وموضوعها. سلكت طريق القراءة المعمّقة والاطلاع والبحث في مختلف الفنون الأدبية بغية التمرين على الكتابة. مشى بي الطريق ومشيت به، طوال ثلاثة عقود. وكان أن انعطف بي المنحنى، وذلك بمشاركتي في "برنامج الكتابة العالمي-International Writing Program" عام 2012 في "جامعة أيوا الأميركية-The University of Iowa"، حيث اجتماع قرابة 20 كاتباً من مختلف أنحاء العالم سنوياً لتقديم شيء من خصائص عالمهم الإبداعي، لطلبة كليات الآداب والفنون في السنوات النهائية. هناك في "أيوا" بدأتُ أعيش نقاشاً أكاديمياً علمياً وعملياً جديداً. وبدأت أشعر بتعامل مختلف مع الكتابة والكاتب، وصار يستوقفني القول:- "الموهبة وحدها أعجز بكثير من أن تخلق كاتباً".- "الكتابة الإبداعية-Creative Writing ومناهجها".- "أساتذة مناهج الكتابة الإبداعية هم من الكتّاب والفنانين المتميزين والمشهود لهم".هناك، شعرتُ بأن طريقة التعامل مع فعل الكتابة الإبداعية مختلفة على مستوى وعي الكاتب بذاته، ووعيه بصنعة الأدب والفن، ومختلفة بالنسبة للمدرِّس، وتالياً الناشر، وأخيراً جمهور القراءة والجوائز.