● كيف ترى مستوى النقد العربي، وهل يستوعب الكم الكبير من الأعمال الأدبية التي تصدر في القصة والشعر والرواية؟

Ad

- الحقّ أنّ الإنتاج الأدبي في الوطن العربي تضاعف خلال العشرين سنة الأخيرة قصّة ورواية وشعراً. وتقارب المستوى وأصبحت النّصوص تتجاوز الحدود، بحكم ترحال الكِتاب بين الأقطار العربيّة في المعارض المزروعة فيها. زد على ذلك ترحال النّصوص عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجوائز العربيّة التي خُصصت لهذه الأجناس. هذا الحراك الأدبيّ خلق تنافساً ولم يخلق أدباً حقاً، لأن الشاغل الغالب هو المعارض والجوائز لا الأدب. فغرّد الأدب خارج السّرب وضاعت الأدبيّة (literary). يمارس الأدب اليوم لعبة الشهرة، فيمارس النقد معه مقامرة المجاملة أو الإقصاء لمصلحة السلع التي دفعت أكثر، وإلا كيف نحكم على جوائز كبرى نعرف الفائز فيها قبل إعلانها بأشهر؟! فغدا الأدب والنقد في خطر بعبارة ت. تودوروف، رغم مجهودات الجيل الجديد في رسم خريطة متنوّعة للأدب.

● على وجه الخصوص، ما سمات التميز للمشهد الأدبي التونسي؟

- المشهد الأدبيّ التّونسيّ متحرّك منفتح على ثقافات مختلفة، يؤمن بالمثاقفة منذ قرطاج والفِينيقيين والرّومان والوَنْدال والمزج العجيب بين المجتمع الأمازيغي والمجتمع العربي. ومن نِتاجه أن جامع الزيتونة علّم العالم التعادليّة وأسّس لأوّل جامعة في العالم، وجعل المعز لدين الله الفاطمي يفتح القاهرة انطلاقاً من المهديّة. هذا الإرث وغيره جعل التونسيّ عموماً والمثقّف خصوصاً متسامحاً يحاول استثمار رصيده الرّمزي (تاريخه أولاً وثورته السلميّة التي أنتجت نظاماً ديمقراطياً متعدداً ثانياً) في إنتاجه الأدبيّ والفكري حفرا في الذّاكرة وهي ترتمي في حضن الواقع... فلا يخلو يوم من أيام الأسبوع إلا والكتب توقّع في دور الثّقافة والمكتبات في كل الولايات والمدن، وحفلات هنا في المسارح والفضاءات المفتوحة كشارع بورقيبة الذي أصبح للثقافة وهي تعانق الأمل وتعترضك رائحاً غادياً، فلا يخلو شهر إلا والتظاهرات الثقافية تستقبل الوفود من الوطن العربي والعالم، كأيام قرطاج السينمائية والمسرحية والشعرية ومعرض تونس الدولي للكتاب ومعرض الكتاب التّونسيّ ومهرجان الموسيقى وملتقى الرّواية العربيّة وملتقى توفيق بكّار للرواية العربيّة والمهرجان العربي البشير التلمودي وقافلة المحبّة التي تنظمها الرّابطة العربيّة للفنون. وهناك بيت الشعر برئاسة الشاعر ابن ضيّة وبيت الرّواية بقيادة الروائي الرّياحي واتحاد الكتّاب برئاسة الحمايدي ومعهد الترجمة ومديره القاصّ توفيق العلوي. كل هذه الأنشطة زادتها بهجة مدينة الثّقافة ومديرها المثقف محمد الجوينيّ، وهي تتصدر كل الأنشطة وتدعو الجهات للاحتفال بالتراث والكتب والعادات والشباب. هذا الحراك وغيره جعل الكتّاب في تونس يتصدّرون التظاهرات في العالم العربي والمحافل في العالم.

● هل تثق بالنقد كمكمل للإبداع، أم أن العلاقة بينهما لها طابع خاص؟

- النّقدُ ليس مكمّلاً للأدب وإلا اكتفى بمُحسّناته. والرّأي عندي أنّ بابَ النّقد لا يُشرع على نافذة الأدب، ونحن نستنسخ النّظريات الغربيّة دون دراية.. وهذا إقصاء للذّاتِ (النّص) وحجبٌ لما يجعلنا نسهم به في التّمايز الثقافي على عبارة الناقد محمد لطفي اليوسفي في كتابه "البيانات"، لكنّ النقد الأدبيّ لم يتخلّص بعد من أوهامه وتبعيته للآخر، لذلك أهدف ناقداً وباحثاً إلى استنطاق النّصوص بوسائلها لا بعكّاز غيرها، وهو ما أكّده الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه "حدود التّأويل" بقوله: "لابد أن ينظر إلى كل نص أدبي بوصفه مقيساً لتآويلهِ الخاصة".

● برأيك، هل الجيل الحالي من الأدباء العرب يُعد مُجدداً؟

- يقول الناقد روجي فايول "إن للأجناس مصائر، وهي مصائر متحوّلة، فالأجناس الأدبيّة شأنها شأن كل الموجودات في هذا العالم لا توجد إلا لتفنى"، لذلك تهفو الكتابة بطبعها إلى إلغاء الحدود، لأن زمن الكتابة هو زمن مفتوح، والكتّاب اليوم يمارسون فعل الكتابة كفعل وجود وهُويّة بعدما فُتح العالم على الوسائط المتعددة، فظهر أدباء معتنقين أدباً يمشي في المجتمع، ممّا خلق نقداً جديداً يرنو إلى النصّ ويفتحه على العالم تجاوزاً لكنائس الأدب والنقد بعبارة د. عبدالدائم السلاّمي، مع وحدات سرديّة ونقدية ومختبرات بحث في جامعات مهمة نشارك فيها ونتابع جديد النقود في العالم، مثل مختبر السّرديات والدّراسات البينيّة بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة/تونس.

● على مستوى الرواية ثمة اتجاه إلى الكتابة المتشظية التي تبدو كنصوص أو قصص قصيرة تحت اسم رواية حداثية... ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

- نعيش عصر الرواية، والرّواية الجديدة (New novel)، والرّواية الجديدة الجديدة (New new novel)، فلما شعر أصحابها بالخطر بسبب المدّ عبر الوسائط المتعددة ومنها فيسبوك، لجأ الكثير لتجريب الكولاج والسينما والمشاهد والمقالات بإقحامها في أعمالهم، مما يخرج الرواية من مفهوم جنسها إلى مفهوم الكِتابة أو إلى مفهوم اللاجنس والضّياع.. والحق أن التجريب بدأ مع عزالدّين المدني وقد مارس التجريب إبداعاً منذ 1967 بـ "الإنسان الصفر" ونقداً بـ "الأدب التجريبيّ"، ثم تواصل المدّ مع حركة الطليعة بتونس مع الطّاهر الهّمامي عام 1968 ثم مع إدوار الخرّاط عند تقديمه للعدد الثامن من مجلة "جاليري 68" الصادر في فبراير 1971. وهذا المدّ تواصل مع القصّة والشّعر حتى وصلنا إلى "الأدب الوجيز".

● لجوء كتّاب جُدد إلى الفضاء الإلكتروني كوسيلة نشر مجانية عبر مواقع الـ "سوشيال ميديا".. أمر إيجابي أم سلبي؟

- لا ينكر أحد أهمية الوسائط المتعددة التي فتحت العالم على الإلكترونيات والذّريات، فهي عالم داخل العالم، بل قد تكون أوسع من العالم لسرعتها وقدرة المبدع على التواصل من خلالها مع المبدعين حول العالم، لكن أن يأكل فيسبوك الإبداع والنقد على حد سواء، فهو أعتى الآفات التي اقتلعت الأدب من جذوره، فأباح "فيسبوك" النصوص (منذ أيام سرق أحدهم مقالاً لي ونسبه إلى نفسه)، فيصبح حينئذ الأدب خفيفاً والنقد لطيفاً كلاماً بكلام بعبارة الجاحظ. علماً أنّ الكثير من الكتّاب هوى بهم "فيسبوك" وآخرون رفعهم كلاّ حسب قدرته على استغلاله إيجابياً.

● ما مشروعك النقدي الذي تشتغل عليه الآن؟

- كنت أشرت إلى خضوع الأدب لحركة الزمن، وقد بادرنا إلى مشروع تونسي لبناني "ملتقى الأدب الوجيز" وعقدنا مؤتمره الأول بتونس في مارس الماضي، وخرجنا ببيان ختامي أهمّ ما جاء فيه أن الملتقى هو سقط زنْدٍ أوّل في مشروع ضخم يستهدف إرساء مفهوم القصّة القصيرة جدّا وشعر الومضة إبداعاً ونقداً، ويتواصل المشروع بلبنان في يونيو المقبل، وأشرف عليه من تونس مع الأديبة فتحيّة الهاشمي والروائيّة إلهام مسيوغة. ومن لبنان النقاد أمين الدّيب ولارا ملاّك وباسل الزّين ودريّة فرحات. أمّا على المستوى النقدي فلي ثلاثة كتب نقديّة تصدر قريباً.