قضى «جو» سنوات ما قبل المدرسة في طفولة لاهية لا يذكر عنها الكثير، فالبيت حسب وصفه «مكان صاخب يعيش فيه ناس مجانين، وأنا كنت مثل اللعبة الصغيرة بينهم... طفل «خيبة» بالنسبة إلى ألفريد الذي كان الجميع يمدحه». ولما وصل جو إلى سن المدرسة كانت الأسرة قد انتقلت إلى مسكن جديد (بناية فخمة من خمسة طوابق) في حي الشاطبي على شاطئ البحر مباشرة بجوار مدرسة «سان مارك» التي كان يدرس فيها شقيقه «ألفريد»، وكانت معروفة باسم «كلية الأخوة» أو «كوليدج فرير سان مارك»، وكانت الدراسة فيها بالفرنسية.

كانت عائلته تؤمن بأهمية التعليم الجيد مثل كثير من أسر الطبقة المتوسطة، فهو الضمانة الوحيدة والأكيدة لمستقبل أكثر إشراقاً، وكي لا يفلت أولادها من خندق الفقر، لمستقبل يجمعهم بأصحاب السلطة والنفوذ، كما جاء على لسان الأم في فيلميه «اسكندرية ليه؟» و«حدوتة مصرية»: «المهم قدرنا ندخلك أحسن مدرسة، لاحظ لما تكبر حيكون لك أصحاب مهمين ماسكين أهم مناصب في البلد وطبعا حيساعدوك».

Ad

لا يتذكر شاهين أيامه في المدرسة، لكنه يتذكر جيداً أنه لم يحبها، خصوصاً في المرحلة الأولى، وأنها كانت سبباً في حالة تلعثم الكلام التي لازمته حتى بعد الشهرة، كما كانت بداية شعوره بالخجل والانطواء (حسيت أني تايه ومش فاهم حاجة، ولسه فاكر لما ناداني مسيو جيرار ونهرني بشدة، لم أفهم لماذا؟، ولم أعرف السبب، كل ما أذكره هو وجهه الغاضب وصوته الصارخ وصورة فمه (زوم إن) وهو بيزعق وفوق شفته العليا شاربان قصيران يشبهان فرشاة الأسنان، شعرت بفزع داخلي وكرهت المدرسة تماماً.. ذكرياتي الداخلية سيئة عن هذه الفترة).

أبي شابلن وليس هتلر

كان شاربا «مسيو جيرار» على هيئة شاربي «شارلي شابلن»، وكانت موضة منتشرة في العالم آنذاك، وكان الأب يقص شاربيه بالطريقة نفسها لذلك ارتبكت مشاعر شاهين بوالده بسبب تشابه الشاربين، وهو ما عبر عنه في فيلم «حدوتة مصرية» مستخدماً شخصية هتلر بدلاً من «شابلن». وشرح المشهد للممثل عبد العزيز مخيون الذي حمل في الفيلم اسم «مسيو جبرائيل»، وهكذا تداخل على الشاشة قمع المدرس مع قمع الأب بهدف التعبير الفني عن الديكتاتورية، لكن الأب لم يكن كذلك في الواقع بشهادة شاهين نفسه، فهو يقول: «كان أبي طيباً جداً، لكنه حين «يتنرفز» يغضب ويهجر البيت، وكانت أمي تقول لنا راح عند أهله في زحلة (بلدة في لبنان). وبشكل عام، لما كبرت قليلاً كنت ألقي على والدي باللوم وأعتبره سبب الفقر والضيق الذي نعيش فيه. حتى أننا كنا نبيع «عفش البيت» كي نوفر المصاريف ونسدد الديون. وطبعاً كان أبي يشعر بالذنب والتقصير، ولما ضاقت به الأحوال خالف طبيعته البوهيمية وقرر قبول وظيفة في قسم القضايا ببلدية الإسكندرية ليوفر لنا الاستقرار ومصاريف الدراسة رغم أنه كان «شاطراً» في مهنته جداً وعنده ضمير. وقد كانت «طيبته» تدفعه دوماً إلى مطالبة زبائنه بأن «يصطلحوا» بدلاً من المقاضاة فكانوا يتركونه ويذهبون إلى محامٍ آخر، فهو ووفقاً لما يؤمن به لم يستطع أن يتربح من «مصائب» الناس، بل كان مقتنعاً بأن مهنة المحاماة خلقت للمساعدة في الحصول على الحقوق، لا للمتاجرة بالهموم. ولما كانت أمي أو جدتي تعاتبه على طريقته كان يرد باقتناع: كده أحسن... الإنسان الجيد لا يتربح من مصائب الناس، وأذكر أنني ناقشته مرة عندما كنت في فترة المراهقة فأكد لي نفس المعنى بأنها مهنة لا علاقة لها بوجع الناس... باختصار «مكانش غاوي فلوس».

«أبي أصوله من لبنان، والدته ربته منفردة لأن جدي (زوجها) تركها وسافر إلى أفريقيا وظل يتجول في بلاد كثيرة حتى استقر في أميركا، ولذلك نشأ والدي تقريباً مثل طفل يتيم الأب وكذلك بلا رعاية من الأعمام أو عائلته. لكن الأم (جدتي) كانت قوية جداً ونجحت في أن تعلمه بشكل متميز، وفعلاً درس الفرنسية وتخرج محامياً أهلياً ومختلطاً بعد أن درس القانون في فرنسا».

بدأ الحضور الرمزي لشخصية الأب في سينما شاهين منذ فيلمه الأول «بابا أمين» كما أشرنا سلفاً، وهو الدور الذي جسده الفنان حسين رياض وكان شبه والده في الطيبة، وفي الأعمال التالية استقر شاهين على تقديم الشخصية الرمزية لوالده من خلال الفنان محمود المليجي في «العصفور» وفي أفلام السيرة الذاتية. ورسم شاهين الشخصية بتعاطف وبمحبة لا تخلو من مشاكسة، ولكنها في المجمل كانت شخصية «إيجابية» تنال التعاطف بلمسة وجودية وإحساس ثقافي، فيما تركز نقده لوالده الرمزي في اللامبالاة الفلسفية أو الانشغال بالصيد والقراءة، كذلك انتقد الأب في «بابا أمين» لأنه ينتمي إلى عائلة برجوازية من الطبقة الوسطى، ولأنه ليس شغوفاً بالمال ولا يشغل نفسه بالحصول عليه.

دراما عائلية

في بيت المجانين كما يسميه شاهين كان هناك عالمان: عالم الكبار بإيقاعهم الخاص وأحاديثهم الغريبة في كل شيء من السياسة إلى الحفلات، وعالم الأطفال المراقبين والباحثين عن الاهتمام. كان شاهين ضائعاً بين العالمين، ينظر إلى شقيقه الأكبر «ألفريد» فيجده محل اهتمام الجميع، وينظر إلى شقيقته آيريس فيجدها منصرفة إلى عالمها الخاص في اللعب وخصوصية علاقتها بأبيها الذي كان يفضلها على الجميع...

وفجأه... يموت ألفريد ولم يتجاوز عمره التاسعة بسبب مرض في الدم، وقد تأثر شاهين بهذا الموت المفاجئ رغم أنه كان ما زال طفلا لم يتجاوز عمره أصابع اليد الواحدة، من ثم لا يعي معنى «الموت» وماهية الفراق. إلا أنه اعترف بأن مشهد شقيقه وهو ممدّد داخل التابوت الخشبي في كامل هيئته لم يبرح ذاكرته أبداً، يومها لم يفهم لماذا نام ألفريد داخل التابوت، وكيف لم يستيقظ رغم الأصوات من حوله، والتي فهم لاحقًا أنها «الصلوات»، كذلك لم يفهم حينها سر انهيار أمه وبكائها «الهستيري». لم يستوعب سر الدموع المتحجرة في عين أبيه والتي راح يداريها كلما فرت رغماً عنه. لم يستوعب في البداية لماذا لم يعد ألفريد موجوداً ليشاركه حجرته أو يلعب معه، ولماذا يتجاهل الجميع الإجابة عن سؤاله «أين ذهب ألفريد؟». لقد عرف معنى الموت لأول مرة، وعرف معنى الغياب.

في هذا اليوم الذي مات فيه «ألفريد» ولدت في رأس شاهين الأسئلة التي لازمته في الحياة وعلى الشاشة، وكان في مقدمها السؤال الكبير الأول الذي تجاهل الجميع الإجابه عنه: «أين ذهب ألفريد؟».

وفي فيلم «اسكندرية ليه» يعبر شاهين عن تأثره بموت أخيه، عندما يزور قبره (الحقيقي) ويسأله صديقه: أخوك؟

فيرد بمحبة وإعجاب: «كان عبقرياً».

وفي الفيلم نفسه يكشف عن حجم المرارة وعتاب النفس الذي ظل عالقاً بقلبه مستعيداً مشهداً طفولياً يكذب فيه ويتهم أخيه أنه هو الذي أوقع الشمعة التي أحرقت تمثال المسيح أثناء الاحتفال بعيد الميلاد في البيت، ويكشف عن «سر العقدة» التي ترسبت داخله عندما سمع جدته تقول: يبقى هتموت زي ما حرقت المسيح. وتعود المشاعر المتناقضة عندما تقول الجدة بعد موت ألفريد: حرام... يا ريت كان الصغير هو اللي مات»، فتنغرس الجملة في قلبه كالإبرة.

يقول شاهين: «في ذاكرتي كان هو الناجح المحبوب، وأنا النحيف المنغلق. كنت أشعر بالذنب وبأنني الذي كان يجب أن يموت وليس هو، وهذا «عقدني جداً»، وظلت هذه العقدة تطاردني كثيراً، بل كانت من أشد العقد التي أثرت بي».

يكمل شاهين: «وأنا أشتغل على فيلم «الاختيار» ظهرت أمامي «عقدة الذنب» بشكل كبير واكتشفت أنها لم تغادر عقلي ومشاعري ولا ذاكرتي، لذلك عكستها في «الاختيار» حيث يقتل الشقيق الناجح (سيد) شقيقه التوأم البوهيمي الفوضوي (محمود) ويعيش حياته وكأني أنتقم له كي أتخلص من عقدتي».

باستثناء هذه المشاهد سواء التي تحكي عن العقدة أو تفسر أسبابها، لم يسرد شاهين في أفلامه أو حواراته الصحافية أيه حكايات جمعت بينه وبين شقيقه الراحل، رغم أنه ومن المؤكد كانت بينهما «خصومات طفولية» وألعاب صبيانية. ولكنه لم يتطرق إلى الحديث عنه أبداً ربما احتراماً للذكريات التي احتفظ بمعظمها وكأنها «سر حربي»، أو لعلها أسرار تتعلق بأمنه «الذاتي»، و ربما كان يريد أن ينسى هذه الذكرى/ العقدة تماماً وإلى الأبد.

مرة وحيدة تحدث شاهين عن أخيه خارج التوقعات، فعندما سئل عن سر شغفه المبالغ فيه بشخصية «هاملت» لشكسبير قال بما يفتح الحديث لتفسيرات نفسية وأدبية عميقة: «هاملت كان أخي بعد وفاة أخي»، ثم أضاف: «وهاملت أيضاً هو «أنا» الذي أبحث عنه، وهو الحائر المتردد الذي أريد التحرر منه».

نعم أنا انطوائي وخائب

لم تكن طفولة شاهين وردية، لكنها أيضاً لم تكن مأساوية. ربما كانت «الحساسية المفرطة» التي ورثها عن والدته سبباً في تشكيل نظرته إلى الأمور بطريقة فنية تخالف الواقع، ما أسهم لاحقاً في تكوين تلك العقد بداخله، وهي «عقد حميدة» تساعد على الثراء الفني والإنساني ولا تؤدي إلى المرض النفسي. وكان شاهين واعياً بتعقيداته ويسعى إلى تجاوزها بالحديث عنها بلا خوف والتعامل معها بود وتفهم، لذلك كثيراً ما حكى في حوارات سابقة عن خجله و«خيبته» وانطوائيته.

يقول: «كنت منطوياً ومنغلقاً على ذاتي. كنت «خيبة قوي»، وكان ذلك بسبب عدم فهمي لأي شيء حولي، لكن بعد صدمة موت أخي تعلمت المعرفة من خلال الأسئلة التي طاردتني، فتحول خجلي وانعزالي إلى شيء إيجابي... ورشة مراقبة وتحليلات لكل ما حولي، فالصدمة تركت أثرها في الجميع: أمي وأبي وجدتي، أصيبت طاقتهم النفسية في مقتل فلم يعد بإمكانهم التعامل معي كطفل ما زال يتفتح وعيه ويتشكل وجدانه، وفي الخارج كان العالم من حولنا في تلك الفترة يعاني صدمات هو الآخر وأزمات سياسية واقتصاديه تركت أثرها في العالم كله ووصلت إلى أسرتي، وبالطبع هذا أثر في تكويني النفسي والثقافي والذي كان غريباً عن كل الأولاد الذين في مثل عمري».

حبيبتي قوس قزح

«آيريس شاهين» كانت رفيقة الحياة ومخزن الأسرار للأخ الوحيد، ففي لحظات كانت هي «الأم» التي تحتويه بحنانها ورقتها رغم أن الفارق العمري بينهما ليس كبيراً، لكن في ما يبدو حنانها الطاغي وأمومتها المبكرة جعلتها بالإضافة إلى كونها الأخت الوحيدة المقربة، كانت أيضاً الصديقة الأولى التي باح لها بأسراره، باختصار هي «شريكة الحياة الأولى» على حد توصيفه.

يقول شاهين: «كانت آيريس في طفولتها «حبيبة بابا»، وهو الذي اختار لها اسمها من آلهة الأوليمب ويعني «إلهة قوس قزح». طفولتنا كانت عادية، لكن بعد مرحلة الطفولة زاد التقارب النفسي بيننا، وبعد وفاة الأب صارت «آيريس» هي أبي وأمي، كانت شخصيتها قوية جداً، لسانها «كرباج» ولكنها كانت خفيفة الظل، وهي صفة ورثتها عن أبينا، أيضاً كانت الأكثر عقلاً وتواضعاً، وكانت لديها قدرة عبقرية على إدارة كل شيء من وراء الستار، يعني تنفع كمخرج أحسن مني».

كانت «آيريس» أكبر قليلاً في العمر، لكنها كانت زاد الطريق لشاهين. كان زوجها المنتج جان خوري الصديق والداعم الأكبر له حينما أسس شركته «مصر العالمية» التي بدأ بها شاهين مسيرته الإنتاجية الخاصة.

كذلك امتدت شركة وسيرة شاهين بفضل جهود ابن وابنة اخته (غابي وماريان خوري)، لكن ورغم التقدير كله فقد أغضبها شاهين بتقديمه الفني المتطرف لشخصيتها في أفلام سيرته الذاتية، حيث وضع الكثير من الخيال الفني الذي يخالف شخصية آيريس في الواقع، لأنه كان يسعى إلى تقديم قضايا وأفكار وليس الواقع. ومع ذلك، لم يكن كل التقديم مزعجاً لأنه بتركيبته المتناقضة المعقدة يمزج الحب والتقدير والتعاطف بالتمرد وكسر المألوف.

في «اسكندرية ليه؟» أظهر كم المحبة التي جمعت بينهما، حيث أبدى اعتراضه الشديد على زواجها من رجل يكبرها (لم يحدث في الواقع لأن المشهد استعار قصة من حياة الأم ونسبها إلى الابنة)، وفي مشهد آخر لم يتذمر «يحيى» عندما لم تستطع أسرته أن تشتري له «بدلة» جديدة لحضور حفلة مدرسية، وفضلوا شراء فستان لأخته، وما إن ارتدته حتى رقص معها فرحاً بالفستان وبجمال أخته الذي فاق (حسب تعبيره) جمال «هايدي لامار» النجمة الهوليوودية ذات الأصول النمساوية.

وبعد فترة من الزواج في الاسكندرية، قررت «آيريس» الانتقال إلى القاهرة مع زوجها لتكون بالقرب من أخيها وظلت إلى آخر العمر تسكن معه في مسكن يعلو بيته بحي الزمالك. لكنها مثلها مثل بقية أفراد العائلة في سيرة شاهين، ظلت لغزاً غامضاً تحيط به الأسوار والأسرار، خصوصاً في مرحلة الطفولة والصبا التي حرص شاهين على التكتم بشأنها ولم يفرج إلا عن قليل من المعلومات التي تناسب صورته العامة كمخرج شهير. لكن تسريبات الطفولة كشفت عن اعترافات صادمة وسلوكيات معقدة نتعرف إليها في الحلقات التالية.

إسكندرية مرآة

وعن المدينة التي عشقها وأحبها كان يقول شاهين: «الاسكندرية عندي ليست مجرد مدينة، وإنما فضاء ممتد بلا حواجز لحياة منفتحة مثل البحر، ومثل السماء التي تصاحبه، فضاء يتسع لكل شيء. عندما ولدت كانت الاسكندرية «عاصمة العالم». كان الخائفون من الحرب ومن الفقر يلجؤون إليها من أي مكان على وجه الأرض، فكانت تضم بين جنباتها عشرات الجنسيات المتنوعة من يونانيين، وإيطاليين، وإنكليز، وفرنسيين، وأتراك، وشوام، وعشرات الملل والأعراق والديانات المتنوعة عاشوا معا تظللهم روح التسامح الاجتماعي، وفي ظل تنوع حضاري وثقافي وفني وإنساني وأيضا معماري. كذلك كانت مدخلاً للفنون والتيارات الجديدة في الفكر والصناعة والأزياء وكل شيء، حتى أنها عرفت صناعة السينما قبل القاهرة، ونشأ فيها أول استوديو، ولمعت أسماء فنية عظيمة مثل المصور السينمائي الإيطالي الذي ساعدني كثيراً في بداياتي «ألفيزي أورفانيللي»، واليوناني «كليليو» و«برونو سالفي» و«توجو مزراحي»، والأخوين لاما، بالإضافة إلى محمد بيومي وكثيرين... باختصار خليط عجيب ومبدع من الناس في مدينة ساحرة لا تعترف بحواجز ولا حدود».

البقية في الحلقة المقبلة