قدم الفنان طلال مداح أولى أغنياته المسجلة بعنوان "وردك يا زارع الورد" وكانت من تلحينه، وحققت رواجاً كبيراً عقب بثها عبر الإذاعة السعودية.في الحلقة السابقة، رأينا كيف استطاع الطفل النحيل الملتحف بخجله التغلب على الظروف الصعبة التي عصفت بحياته، طلال الذي فقد والدته عقب ولادته بفترة وجيزة، ثم اختفى والده من حياته، إضافة إلى انتقاله للعيش في كنف خالته وزوجها الذي منحه اسمه، الذي اشتهر به؛ لأن والده الحقيقي لم يكن قد حصل على الجنسية السعودية آنذاك، لم تثقله الهموم أو تثبط عزيمته، بل كانت سبباً لتميُّزه بين أقرانه، فلفت انتباه أساتذته في المدرسة حتى أصبح التلميذ المقرب منهم ومقدم فقرات الحفلات المدرسية كما كان مقرئ القرآن الكريم؛ لأنه يتمتع بجمال صوت وعذوبة قل نظيرها.
بعدما أتقن طلال مداح العزف على آلة العود أصبح يغني في البيت وأمام الأصدقاء، ولأنه يملك صوتاً جميلاً كان يستحسنه كل من يستمع إليه، بدأ طلال ينتشر في الحي الذي يسكن فيه، فانهالت عليه الدعوات لإحياء حفلات الأهل والأصدقاء كالزواج و"الطهور"، ومع مرور الأيام أصبح أشهر مطرب في هذه المدينة، وكان يغني كل الألوان الغنائية الشرقية والحجازية والعدنية لكبار المطربين، ومنهم محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وأم كلثوم وحسن جاوه وطارق عبدالحكيم وعبدالله محمد.في هذه الحلقة، نسلط الضوء على وظيفته في البريد التي آثر الاستقالة منها بعدما شعر بالضيق من روتين العمل في الصباح ومشقة السهر للغناء ليلاً، فضحى براتب قدره 350 ريالاً في طريق الفن الذي عشقه منذ الصغر، كما نرصد موقف والديه من هذا القرار الجريء، ونتطرق إلى الآثار النفسية التي توغلت في وجدانه عقب فقد والديه، وكثرة التنقل من مكان لآخر... وفيما يلي تفاصيل أخرى من مشوار الراحل طلال مداح.
العمل والغناء
خلال عمله في البريد بمدينة الطائف كان يشعر طلال بالضيق من روتين العمل اليومي، ولاسيما أنه كثير السهر مع أصدقائه، إضافة إلى الحفلات الخاصة التي يحييها، فكان الجمع بين الغناء والعمل مصدراً لمعاناته، وتحمل ذلك في بادئ الأمر، لكنه عقب مرور فترة من الزمن، ضاق ذرعاً، ولم يستطع الجمع بين هوايته المحببة وعمله في البريد، وفي أحد الأيام اجتمع مع أسرته وأخبرهم أنه يريد أن يترك العمل الصباحي في البريد فهو لا يستطيع الجمع بين الغناء ليلاً والعمل صباحاً، وقد تسبب ذلك له في إرهاق شديد. وعقب المناقشة ذكر لهم طلال أنه سيترك الوظيفة ويتفرغ للفن وهذا هو قراره النهائي، ولا سيما أن إحياء الحفلات بدأ يدر عليه بعض المال. لم يرفض والداه (خالته وزوجها) هذه الرغبة بل سانداه؛ لأنهما يعشقان الفن ويعزفان على الآلات الموسيقية، إضافة إلى أنهما كانا لا يرفضان له طلباً.مغامرة كبيرة
لبّى طلال نداء قلبه الذي أخذه باتجاه الغناء، فلم يود الاستمرار في الوظيفة التي تدر عليه المال، فقد كان زاهداً في المال وهو الذي عاش اليتم وشظف العيش والألم والحزن، تتبع طلال نداء الموهبة الحقيقية التي كانت تدفعه إلى المضي في طريق الفن. وعلى إثر هذا القرار، يخوض غمار مغامرة كبيرة تبدو محفوفة، ولا سيما أن طريق الفن في بلده وعر جداً ولم يكن مفروشاً بالورود، فالعادات والتقاليد وأعراف المجتمع كانت تسيطر على المشهد آنذاك، ومن يتجه إلى الفن سيناله نصيب من النقد والقذف، لكن طلال أدار ظهره لكل هذه الأمور متأبطاً موهبته فاتحاً ذراعيه إلى الغناء.أفكار جديدة
لم يدرك طلال أنه سيكون منافساً للمطربين العرب الذين دأب على حفظ أعمالهم، ولاسيما أن المراحل المقبلة من حياته ستكون حافلة بالنجاح والتميز، ومضى في طريقه باحثاً عن أفكار غنائية جديدة على مستوى الكلمة والموسيقى، وعقب مواظبته على أداء الأغنيات الشرقية والأغاني المحلية وفنون شبه الجزيرة العربية بدأ يكتسب خبرة لا بأس بها، ولا سيما أنه اتجه إلى العزف والغناء في سن مبكرة من حياته.حزن وشجن
اتشحت نبرة صوته بالحزن والشجن، فهو خسر والديه في المهد، فانعكس ذلك الألم على صوته، كما أن الظروف الصعبة التي عاشها في بواكير حياته شقت أخاديد من الحسرة في نفسه، إضافة إلى التنقل من مكان لآخر، كل هذه المعطيات تركت آثاراً نفسية في تكوينه، وربما كان السبب الأكثر إيلاما له فقد والدته، إذ عبر عن هذا الفقد في إحدى مقابلاته التلفزيونية بقوله: "إن غياب والدتي الحقيقية من حياتي جعلني أشعر بفقد الحنان، وكأن العاطفة التي كنت أحتاج اليها نفدت، رغم أن خالتي لم تقصر معي يوما لكنه شعور إنساني يطفو على مشاعر طفل يتيم، فقد كنت أشعر أني لم أرضع حنان الأمومة".عقب هذه المرحلة أراد طلال أن يكون له أغنياته الخاصة، فهو يبحث عن أعمال تشكل علامة فارقة في مسيرته، رافضاً الاستمرار في أداء أغنياته لمطربين آخرين مشرئباً نحو إيجاد شخصية فنية تميزه عن غيره، ولذلك انطلق في مغامرة أخرى.بداية الطريق
بدأ الفنان طلاح مداح البحث عن كلمات يغنيها، وحينما عرف أن لدى صهره شقيق زوجته قصيدة بعنوان "وردك يا زارع الورد" أخذها ولحّنها وغناها، ونجحت بشكل كبير فاق التوقعات، فكانت قصيدة عبدالرحمن خزام السليماني فاتحة خير عليه، والمعروف أن شقيقة عبدالرحمن هي الزوجة الأولى لطلال، حيث تزوج لاحقا من سيدتين مغربية ومصرية وله 5 أولاد و8 بنات.استطاعت أغنية "وردك يا زارع الورد" تحقيق انتشار كبير للفنان طلال مداح لعدة أسباب، في مقدمتها أن طريقة تلحينها لم تكن رائجة في السعودية حيث درج المغنون والملحنون على تقديم لحن واحد للأغنية يسير على وتيرة واحدة للأغنية بأكملها بلا تقطيع أو تقسيم، فجاءت هذه الأغنية على طريقة الغناء المكبله أي الاغنية التي تكون على هيئة مقاطع طربية عريضة، كما أن الأغنية جرى تسجليها في الإذاعة وأذيعت واعتبرت أغنية صباحية، وهي أغنية عاطفية فكان له قصب السبق في أن تكون أول أغنية عاطفية تذاع في السعودية، حيث كانت الإذاعة آنذاك لا تبث إلا الأغنيات الوطنية، كما أن المستمع في السعودية اعتاد سماع بعض الأصوات من الرواد مثل طارق عبدالكريم وحسن جاوه ومحمد علي وغيرهم، وعرف كل فنان بأسلوبه الخاص في الأداء، لكن طلال بحث عن شكل مغاير يلفت به الانتباه ويجذب الجمهور من خلال المزج بين الألوان الطربية الشرقية والفنون الشعبية مع المحافظة على الإرث الفني العريق المتداول في السعودية آنذاك، ولا سيما أن المملكة مترامية الأطراف ومساحتها شاسعة فكان هناك اللون الحجازي واللون البدوي والألوان الجنوبية وغيرها من الفنون الشعبية.سبب الانتشار
وكان الراحل يقول عن أغنية "وردك يا زارع الورد" إنها سبب شهرته وانتشاره، كما أن تسجيلها في الإذاعة كان خطوة مهمة جعلته يدخل إلى بيوت الجمهور السعودي من خلال صوت المذياع فحقق له هذا الأمر انتشاراً كبيراً.ويضيف عن هذه الأغنية، أنها باكورة أعماله التي لحنها بشكل رسمي، وكانت سبب شهرته وبداية مثالية وموفقة لمطرب شاب، "كما أنها سبب في انتقالي من الطائف إلى جدة حيث سمعني في إحدى الحفلات الخاصة المراقب العام للبرامج في الإذاعة عباس غزاوي فطلب مني الذهاب معه إلى جدة، وكنت حينها قد تزوجت، فقررت الانتقال إلى هناك لأبدأ رحلة جديدة".خلال هذه الفترة شهد طلال نشاطاً مكثفاً ومختلفاً، فلم يقبل بالغناء في الحفلات الخاصة فقط بل كان هناك طموح يدفعه إلى المضي قدما في مشواره، فقد بدأ يقدم أغنيات خاصة به.ومن أبرز الاغنيات التي قدمها عقب انتقاله إلى جدة: "سهرانين" و"أسمر من البر" و"مجروح" و"غريبة تشك في اخلاصي" و"طال الجفا" و"يا قمر تسلملي عينك" وغيرها، وعقب الإقامة في جدة سجل طلال أغنية "وردك يا زارع الورد"، ثم بدأ تسجيل أغنياته عن طريق الأسطوانات في بيروت ليكون أول مطرب سعودي يسجل أغنياته في بيروت.«وردك يا زارع الورد»
تعتبر وردك يا زارع الورد الأغنية الأولى التي شدا بها طلال مداح رسمياً، وهذه كلماتها:وردك يا زارع الورد وردك يا زارع الورد فتح ومال ع العودكلك ربيـع الورد منك الجمال موعودوردك يا زارع الوردوردك جميل محلاه فتح على غصنهلما الندى حياه نور وبان حسنهومال يمين وشمال.. وردك يا زارع الوردجميل وماله مثال.. وردك يا زارع الوردوردك يا زارع الوردوردك يميل ويقول مين في الجمال قـديدي سلوة المشغول في عيني وفي خديبيفرح المشتاق.. وردك يا زارع الوردوهدية للعشاق.. وردك يا زارع الوردوردك يا زارع الوردصبح صباح الخير من غير ما يتكلمولما غنى الطير ضحك لنا وسلمبيطمن الحيران.. وردك يا زارع الوردعلى الجمال سلطان.. وردك يا زارع الوردوردك يا زارع الورد«صوت الأرض» يوقع عمر كدرس في مأزق
اشتهر الفنان طلال مداح بالطيبة وحب الفكاهة، ويروى أنه في إحدى الحفلات الغنائية في بداية الستينيات بالسعودية حيث كان معه زميله عمر كدرس ضمن الفرقة الموسيقية، وقد اتفقا على ألا يعزف عمر كدرس على آلة العود، ويتولى العزف على آلة «الكمنجة»، لكن عقب الاستراحة كانت الأمور تسير نحو خرق هذا الاتفاق والتنصل منه، حيث طلب الجمهور من الفنان كدرس الغناء وكان الحضور يصرخ «هيا يا بوسراج سمعنا»، وأمام هذه المطالبات لم يجد كدرس مفرا من الغناء تنفيذا لرغبة الجمهور، وتقدم تاركا مكانه بين اعضاء الفرقة وامتشق العود وطلال ينظر إليه ثم جلس بجوار طلال وبدأ يغني «يا سارية خبريني» وأسبقها بمجس حجازي ألهب به مشاعر الحضور الذي تعالت صيحاته استحساناً لهذا الغناء.. لكن طلال أراد أن يوقع عمر في فخ حينما اقترح عليه أن يؤدي أغنية أخرى للجمهور المتعطش لسماع صوته، وأشار عليه بأداء أغنية «هان الود» للفنان محمد عبدالوهاب، وهنا استغرب عمر الاقتراح لكن أمام صيحات الجمهور المطالبة بالاستمرار بدأ ينفذ ما طلبه منه طلال، وعقب أداء المقطع الأول استغرب الحضور مما يغنيه عمر الذي رأى عدم قبول الجمهور لهذه الأغنية، فاضطر إلى التوقف عن الغناء والعودة إلى مكانه بين أعضاء الفرقة.وعن هذا الموقف، كان يروي طلال أن «كدرس صوته من النوع السوبرانو، ولا أستطيع مجاراته، كما أن الجمهور في تلك الفترة كان يحب هذا النوع من الغناء، لأنه يريد التفاعل والتعبير عن سعادته بترديد المفردات». ويضيف طلال: «أذكر أنه في الحفل آنذاك طالب الجمهور عمر بالغناء، والحقيقة تقال انه أخذ الجو؛ ولأنني فكرت ماذا سأفعل لاسترجاع تفاعل الجمهور معي، اقترحت عليه أداء أغنية (هان الود) وهي من الغناء الصعب وتحتاج إلى قدرات صوتية كبيرة، لكن الجمهور حينها لم يكن يريد سماع هذه النوعية من أغنيات القرار، فكان هذا الموقف طريفاً جدا، وأثناء أداء كدرس المقطع الأول من الأغنية أدرك أنه وقع في الفخ، وهمس لي (عملتها فيّا... قالولي هان الود عليه) فأجبته بأن الجمهور منسجم معك استمر في الغناء... لكنه اكتفى بما قدمه وحينها أخذت العود، وأديت أغنية من اللون الذي يحبه الجمهور، وعقب الحفل وبعد أن حملنا آلاتنا وركبنا السيارة جلس بجواري وقال لي: هان الود عليه أليس كذلك، فقلت له: ألم نتفق ألا تمسك العود وتغني في حفلاتي».يذكر أن المجس هو فن الموال في الحجاز وتهامة، وازدهر هذا النوع من الفنون في المدينة المنورة والطائف ومكة المكرمة وجدة، وهو لون تراثي عريق، ويغني من بيتين أو أربعة أبيات أو سبعة من عيون الشعر العربي. وكان يعرف من يؤدي هذا اللون التراثي بالجلسة، وهو يبدو وكأنه ضرب من ضروب الموال العربي الذي اشتهر في كل الأقطار العربية، ويكتسب المجس بديعيته من صعوبة الأداء فهو يبدأ من مقام معين ثم ينتقل إلى آخر يعود إلى المقام نفسه.