صوم الجوارح والضمائر!
مبارك عليكم شهر رمضان الأغر بفيض من الرحمة الإلهية والتوفيق باستلهام خيره وبره، والاستعانة بالله على النفس في صيامه وقيامه، وتنقية الذات من تراكمات وزلل الشهور الماضية، وهنيئاً لمن تشمله الرعاية الربانية في هذه الأيام الفضيلة، فقد ورد في الأثر: "أنه شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله".هذه المحطة الزمنية لا تروّض الإنسان بالتكيّف مع الصيام عن الأكل والشرب فحسب، بل إنها دورة ميدانية للارتقاء بالعقول والعواطف والجوارح والضمائر وتهذيبها وفقاً لمعايير الإنسانية وصفائها، لعل وعسى تعم ولو بعض المآثر والإيجابيات في سلوك الإنسان تجاه ربه ومحيطه الاجتماعي وامتداده البشري، وبمعنى آخر يؤمل أن تكون أيام شهر رمضان فترة راحة وهدوء يتنفس خلالها الضعيف والمظلوم والمحتاج الصعداء من صور البطش والظلم الذي يعانيه في معظم شهور حياته.وفي بلد أنعم الله عليه بالنعمة الوافرة والأمن والسلامة يستوجب علينا جميعاً أن نراعي راعي هذا الفضل غير المحدود في من هو أضعف منا، وهذا الضعف قد يكون مصداقه الفقير والغريب ممن جاء لكسب رزق عياله، وما نراه من موائد الإفطار الجماعية لفتة رائعة، لكن الأهم من ذلك إنصافه بلا تكبّر ولا منّة ولا تنابز عليه أو تهديده أو حرمانه من حقوقه الإنسانية، وما تقدمه الدولة من خدمات ومعاملة حسنة، وهي من الصور غير اللائقة التي قد يمارسها البعض في مجتمعنا.
ومن تطبيقات هذا الشهر الفضيل تذكر إخوة لنا في الدين والأرض، عاشوا وساهموا في بناء هذا البلد وذادوا عن حدوده وحرمته، واليوم يعانون صوراً متعددة من الجفاء والضغط النفسي والحرمان وحتى الابتزاز، مما قد يوقعنا في مهلكة الظلم واستجابة دعوة المظلوم علينا، فلعل شهر الصيام وبما يحمله من تهذيب للوجدان يشفع لآلاف الأسر المتعففة بحياة كريمة ومستقرة.ومن متطلبات هذا الشهر الكريم صوم الجوارح وعفة اللسان والتراحم والتعاضد، وما أحوجنا إلى هذه الأخلاق الراقية وروح التسامح في أجواء يسودها الاحتقان البغيض والاصطفاف الجاهلي باسم الفئوية أو القبلية أو الطائفية وكلها مقيتة ولا تخلف سوى الدمار والتراجع والعصبية الصبيانية، ولا يستفيد منها إلا المتاجرون بلحوم البشر في حين يخسر الوطن لحمته الحقيقية ونسيجه وأسس استقراره.والأهم من ذلك، وكما ورد في الأثر أيضاً عن أن من أفضل الأعمال في الشهر الكريم "الورع عن محارم الله"، ولعل أكبر أنواع هذا الورع هو تجنب التطاول على خيرات بلدنا وثرواته ومسامير الفساد التي تدق ليل نهار في جسده، حتى وصلنا إلى أدنى المستويات بين الأمم في مؤشرات التنمية والخدمات، وفاحت الروائح الكريهة من كل حدب وصوب، وإذا لم تكن أيام الله الفضيلة كفيلة بامتناع الفاسدين عن هذا التطاول فإن واجبنا كف أيديهم عن ذلك، فكما أن شهر رمضان تكبّل فيه الشياطين، فينبغي أن تكبّل شياطين الإنس بقوة القانون وهيبة النظام حتى يقبل أحد مصاديق صيامنا!