ارتبط اسم الفنان طلال مداح بالإنجازات، فكان له السبق في كثير من الأمور، حيث كان أول مطرب سعودي يسجل أغنياته في لبنان، ويشارك في إحياء الحفلات هناك. في الحلقة السابقة رأينا كيف آثر الفنان طلال مداح الاستقالة من وظيفته في البريد بمدينة الطائف، مفضلا الاستمرار في مشواره الفني بتفرغ تام، ثم رصدنا رحلة بحثه عن أغنيات خاصة به تميزه عن الآخرين، فكان له ذلك من خلال تلحين أول أغنية له، وكانت بعنوان «وردك يا زارع الورد»، التي حققت له انتشارا كبيرا في الطائف، مما دفع المراقب العام للبرامج الإذاعية في جدة عباس غزاوي إلى الطلب منه نقل إقامته إلى مدينة جدة، ليسجل له هذه الأغنية وغيرها من الأغنيات وكانت تلك الأغنية هي أول أغنية عاطفية تذاع في المملكة العربية السعودية.
وهنا في الحلقة الثالثة نسلط الضوء على عدد من الشخصيات التي ساهمت في دعم مشواره الفني ومنهم طارق عبدالحكيم والعازف محمد الريس والفنان عبدالله محمد ونرصد توهجه في جدة وتقديمه الأغنية الوطنية «وطني الحبيب» التي يعتبرها السعوديون أيقونة للفرح والانتماء، ونتطرق إلى علاقته بالملحن غازي علي والأغنيات التي جمعتهما خلال فترة الستينيات من القرن الماضي... وفيما يلي تفاصيل أخرى من مشوار الراحل طلال مداح.اشتهر طلال مداح بالاعتراف بفضل الآخرين عليه من الذين دعموه وساندوه في مشواره الفني، فلم ينفك الراحل من التصريح عبر وسائل الإعلام عن الدور الكبير الذي قام به الفنان عبدالله محمد في دعمه وتوجيهه، فيذكر طلال أنه استفاد من عبدالله محمد التعرف على طرق تحسين الأداء الصوتي وتطويره، إضافة إلى تدريبه على عزف أغنيات متنوعة مصرية وكويتية وحجازية وغيرها ومن الذين أثنى عليهم طلال بموضوع المساندة الفنان طارق عبدالحكيم الذي تعاون معه في مجموعة أغنيات.
ويقول طلال عن أهمية الفنان طارق وريادته في الغناء أنه لم يكن يحظى بشهرة كبيرة فقط في السعودية، بل كانت ذائقة الناس في تلك الفترة لا تلتفت لمطرب جديد لا يسير على خطى طارق، فكان من الصعب منافسة هذا الفنان الكبير، لكن دفعني ذلك إلى تقديم المزيد من الجهد والعطاء والتفاني لبلوغ ما أصبو إليه، فكنت أشحذ الهمة، وأتحلى بالجلد، خشية الوقوع في براثن الفشل أو عدم القدرة على مجاراة هذا النجم الذي كان صيته يحاصرني حتى في بيتي الذي أعيش فيه، فأغنيته «يا ريم وادي ثقيف» تصدح في جنبات بيتنا.وفي المقابل كان عبدالحكيم يقول عن طلال إنه يعتبر صوت الذهب الذي لا ينضب، وإن طلال ظل يغني حتى وفاته، لأن صوته أصيل وقوي، وقد أعطيته في أول تعاون فني معه أغنية «ما عننا وعنك» حينما كان يقيم في الطائف، ثم قدمت له أغنية «لك عرش وسط العين»، و«فات الأوان»... وهو صوت لا يعوض، وكان ودودا، ويحرص على الاتصال بي دائما، ويطلب مني الظهور عبر وسائل الإعلام والغناء، وقد أوصيت طلال بأن يهتم بالفولكلور ولا يسقطه من حساباته، وقد استوعب هذا الحديث فكان الفنان الأمين على تراث بلده.وفي مجال العزف ذكر طلال مداح أن العازف محمد الريس كان له الأثر الكبير في صقل موهبته وتنميتها من خلال تدريبه على أساليب العزف المختلفة.
وطني الحبيب
قدم الفنان طلال مداح مجموعة أغنيات ناجحة عقب إقامته في جدة بحكم قربه من الإذاعة وعلاقته الوطيدة بالمسؤول آنذاك عباس غزاوي، ولأن الإذاعة كانت لا تبث إلا الأغنيات الوطنية ولا تعير أي اهتمام للغناء العاطفي، تماشياً مع الأعراف الاجتماعية السائدة في تلك الفترة، فقد بحث طلال عن أغنية وطنية يؤديها فعثر على رائعته «وطني الحبيب» التي يعتبرها الكثيرون أيقونة للفرح والانتماء، وكانت من كلمات المهندس مصطفى بليلة ولحنها طلال وغناها أول مرة في عام 1961 وسجلها في الإذاعة بمصاحبة فرقة النجوم الموسيقية بقيادة محمد أمين يحيى وسامي إحسان ومحمد شفيق وعبدالله الماجد وعبده مزيد وسراج عمر، وغيرهم، وكل هؤلاء الأسماء يعتبرون من نجوم الأغنية السعودية آنذاك، واستمروا في العطاء فترات طويلة.عقبات وحواجز
بدأ طلال مداح بإرساء قواعد صلبة في جدة، فكان مع كل أغنية يؤديها أو حفلة يشارك فيها يحقق نجاحاً كبيرا، لكن هذا لا يعني أن طريقة كان مفروشا بالورد، بل كانت هناك عقبات وحواجز استطاع تجاوزها بكل ثقة واقتدار، وكان يقول الراحل عن الأجواء في جدة: «كنت صغيرا في تلك الفترة، وجئت إلى مجتمع مختلف عن الذي تربيت فيه بالطائف، كما أنني معروف هناك وفي جدة عدد معارفي محدود، لكن الطموح إلى الانتشار وبلوغ أرقى درجات النجاح كان هو الدافع.ومن الذين تعرفت عليهم في بداية إقامتي بجدة الأستاذ عبدالله بسيوني، وبصراحة هو من أهم الأسباب التي دفعتني إلى البقاء في جدة، لأنه كان يقيم حفلا أسبوعيا يشارك فيه الفنان محمد علي والفنان فوزي محسون وغيرهما، وكنت بطبيعة الحال أشارك في هذا الحفل، فحقق هذا المنبر حضوراً جميلا لي لدى الجمهور في جدة، وبدأت أتعرف على بعض الأساتذة والشعراء والمثقفين إلى أن أصبحت لديّ صداقات وطيدة في الوسط الثقافي والحقل الفني، كما توثقت علاقتي بالمسؤولين في الإذاعة، وبت أشارك في الحفلات التي تقيمها الإذاعة.أيقونة وطنية
حققت أغنية «وطني الحبيب» نجاحاً كبيراً لطلال، لاسيما أنها أصبحت أشبه بالنشيد الوطني، ويقول عنها الكاتب عبدالرحمن الناصر في استديوهات إذاعة جدة سجل طلال مداح هذه الأغنية التي ارتقت لتكون جزءا من وجدان الناس وذاكراتهم، فترنموا بها وطربوا في كل وقت وحين، ومازالت بعد هذه العقود الطويلة حاضرة بقوة في قلوب الناس، حتى أضحت أيقونة وطنية وعنواناً رئيساً لعلاقتهم بأرضهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.قبل ذلك لم تكن تذاع إلا الأناشيد والابتهالات الدينية، إلى أن ظهرت هذه الأغنية لتكون الأولى والبداية والعشق الأبدي، واستحقت الأغنية الخلود منذ ولادتها بكلماتها الوطنية الصادقة المسجلة باسم الشاعر مصطفى بليلة، وبلحنها المبتكر الذي صاغة طلال مداح، مؤكدا ريادته الفنية مغنياً وملحناً وراسماً هوية الأغنية السعودية في عصر بدايتها الذهبي. وتقول كلمات أغنية «وطني الحبيب»:روحي وما ملكت يداي فداهُوطني الحبيب وهل أحب سواهُوطني الذي قد عشت تحت سمائهِوهو الذي قد عشت فوق ثراهُمنذ الطفولة قد عشقت ربوعه إني أحب سهوله ورباهُوطني الحبيب.. وطني الحبيب.. وهل أحب سواهُ؟***وطني الحبيب وأنت موئل عزةٍ ومنار إشعاعٍ أضاء سناهُفي كل لمحة بارقٍ أدعو لهُفي ظل حامٍ عطرت ذكراهُوطني الحبيب.. وطني الحبيب.. وهل أحب سواهُ؟***في موطني بزغت نجوم نبيّهِوالمخلصون استشهدوا بحماهُفي ظل أرضك قد ترعرع أحمدٌومشى منيباً داعياً مولاهُيدعو إلى الدين الحنيف بهديه زال الظلام وعززت دعواهُفي مكةٍ حرم الهدى وبطيبةٍبيت الرسول ونوره وهداهوطني الحبيب.. وطني الحبيب.. وهل أحب سواهُ؟محطة جديدة
في عام 1962 يشد الفنان طلال مداح رحاله إلى لبنان لتسجيل أغنيات هناك، وطبعها على الاسطوانات، وكان ذلك من خلال شركة توزيعات الشرق، وبدأ يتردد كثيرا على لبنان للمشاركة في الحفلات الغنائية أو لطبع اسطواناته، لاسيما أن بيروت كانت بلد المصياف للخليجيين، وحقق حينها طلال مداح رواجا كبيرا وانتشارا لم يكن يتوقعه لم يقتصر جمهوره على الخليجيين فقط، بل كان العرب يحرصون على حضور حفلاته، نظرا لجمال صوته وقدرته الكبيرة على أداء الألوان الغنائية المختلفة.اللون الحجازي
عن المرة الأولى التي شاهد فيها الفنان غازي علي الفنان طلال مداح، يروي أنه التقى مداح في الطائف حينما كان قد اشتهر في هذه المدينة من خلال زميله عبدالله محمد، الذي حكى له عن طلال، وعندما رآه وسمعه يغني اللون الحجازي والألوان الشرقية، ومنها أغنية «بتسأليني بحبك ليه» للفنان محمد عبدالمطلب، إضافة إلى اللون العدني استمعت إليه وأدركت مدى قوة إمكاناته، وبدأت علاقتي به تتوطد، ومع مرور الأيام تعاملت معه وقمت بتحلين مجموعة أغنيات له هي أغنية «سلام لله يا هاجرنا» من كلماتي، وأغنية «أسمر حليوه» من كلمات طاهر رمخشري، وأغنية «اسمحولي» كلمات ميشيل طعمة، وغناها طلال في فيلم «شارع الضباب».قصة حقيقية حدثت تفاصيلها في مصر
فيما يتعلق بأغنية «سلام لله ياهاجرنا» يقول الفنان غازي علي إن هذه الأغنية قصتها حقيقية، وكنت أدرس حينها في المعهد الموسيقي في مصر، وكنت شاهدت فتاة جميلة جداً بعد أن فتحت شباك بيتي في الجيزة، وحاولت محادثتها، لكني فشلت وكررت المحاولة، لكن كان مصيرها كسابقاتها ومضت الأيام، وانتقلت إلى بيت آخر بمنطقة العجوزة مقر السكن الجديد، وفي أحد الأيام فتحت الشباك، فوجدت هذه الفتاة أمامي وتحمل بين ذراعيها طفلا، وعقب أيام رأيتها في الشارع وهي تدفع عربة طفلها فتمتمت: «سلام لله..» أعجبتني المفردة، فقررت أكتب قصيدة ألخص فيها تفاصيل ما حدث، وكان ذلك، ولحنتها في يومين، وبعد ذلك التقيت طلال مداح وطاهر زمخشري في بيروت لتسجيل أعمالنا هناك، وحينها سمع طلال الأغنية وأصرّ على أن يغنيها، فوافقت ثم طلب غناء «أسمر حليوه» التي هي كانت لمطربة اسمها سلّامة، وكان له ذلك.وتقول كلمات أغنية «سلام لله يا هاجرنا»:سلام لله يــــــــا هاجرنافي بحر الشوق وما له قرارخساره البيت جوار بيتنا ولا ترعى حقوق الجـاروأنا مداري على ناريوأقول يمكن في يوم جاري يراعينييا أهل الله.. سلام لله.. سلام للهسلام من عينك الحلوةترد الروح وتحييني يا سحر الشرق يا غنوهيا بحر الشهد أرويني أنا أتمنى أعيش فيهممدى عمري أغنيهموأنا مداري على ناريوأقول يمكن في يوم جاري يراعينييا أهل الله.. سلام لله.. سلام للهسلام من عودك المايلغزال يخطر في وديانه يكيد عذاله ويخايلمحبينه وخلانه قضيت عمري وأتمنىأعيش العمر وأتهنىوأنا مداري على ناريوأقول يمكن في يوم جاري يراعينييا أهل الله.. سلام لله .. سلام لله