في عدد رمضان، مايو عام 1955 من مجلة "الهلال" المصرية، كتب الأديب الأسواني عباس العقاد مقالاً عن شهر رمضان، نشر بعد ذلك في كتابه "عالمية الإسلام"، وفيه يقول: "أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين، والخلق في الدين، وما الخلق إلا تبعات وتكاليف... ومن ملك الإرادة فإن زمام الخلق جميعا بين يديه.

وميزة رمضان أنه فريضة اجتماعية مع فرضه على أحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام، ولتغيير العادات شهراً في كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد، وبما يستتبع ذلك من أهمية الجماعة كلها لهذا الشهر خلال العام.

Ad

الصيام على اختلاف أنواع، وليس أكثر من أنواع الصيام هذه الأيام، سواء كان لاجتناب السمنة لدى الجنس اللطيف، أو حرصاً على الرشاقة، أو لإصلاح المعدة، أو الصيام السياسي (الاحتجاج على معاملة أو رأي)، أو الصيام للبخل والتوفير، أو صيام اليوغا وعادات المتصوفين والنساك.

إذن ليس زماننا زمان الإعراض عن الصيام كأنه عادة من عادات الأقدمين التي عفى عليها الدهر ـــ كما يقولون ـــ بل هو نريد فيها ألوان الصيام، ولا تنقص في علمنا من عصر قط استحق أن يُسمى عصراً صيامياً كالعصر الذي نحيا فيه".

وفي موضع آخر في نهاية المقال يقول العقاد: "إذن الإرادة هي فضيلة الفضائل في الصيام، ومتى عرفت هذه الحكمة فآداب رمضان كلها محصورة في معناها. وليس من أدب رمضان أن يململ الصائم أو يتجهم كأنه مكره عليها مطيع لها بغير رضاه. وليس من أدب رمضان أن يقضي صيام نهاره في النوم تاركا الطعام، وليس من أدب رمضان أن يفرط الصائم في الطعام والشراب بعد غروب الشمس حتى موعد الإمساك، وليس من أدب رمضان صيام المريض معرضا نفسه للتهلكة إذا كانت لا تجب الفريضة عليه".

أديب نوبل

أما أديب "نوبل" نجيب محفوظ فقد تأثرت كتاباته بشهر رمضان مثل "الثلاثية"، التي كتب تفاصيلها من ذكرى طفولته، حيث كان يعيش في حارة الوطاويط قرب مسجد الإمام الحسين، لكنه لم يكتب أي رواية له في رمضان، حيث كان يستغل هذا الشهر في الاستمتاع بالأجواء الروحانية، وقراءة الكتب في المجالات المختلفة مثل الكتب الدينية والفلسفية، والشعر الصوفي، خصوصا في الفترة ما بين صلاتي العصر والمغرب، وكان يقول: "قراءة الشعر الصوفي في حالة الصيام تجربة فريدة".

محفوظ الذي اتهمه جهلاء بالكفر، وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1995 بسبب روايته المثيرة للجدل "أولاد حارتنا"، كان كتب مقالاً في صحيفة الجمهورية في أبريل 1957 تحت عنوان "الصيام طاعة ومحبة لله"، يؤكد فيه إيمانه الشديد وإدراكه لفلسفة الصيام، حيث قال:

"قالوا لي في حكمة الصيام إنه فرض على المؤمنين ليخبروا في أنفسهم آلام الجوع فتنعطف قلوبهم نحو الفقراء، وأنه وسيلة تربوية لشحذ الإرادة، واعتياد الصبر، وأنه سبيل إلى تهذيب نوازع النفس وتطهير الروح، كل هذا حق، غير أن المؤمن لا يقبل على الصيام لداعٍ من هذه الدواعي بقدر ما يقبل عليه طاعة لله ومحبة فيه، وهو يجد في هذا السعادة دون تعليل أو تأويل، وطاعة الله ومحبته تقتضيان واجبات روحية لعلها أخطر من الصيام نفسه، ولكن الصيام تذكرة لمن شاء أن يوجه ضميره نحو هذه الواجبات لتأملها والعمل على تحقيقها، فليكن لنا من شهر الصوم فرصة طيبة لمراجعة النفس في سلوكها حيال الحياة والناس على ضوء مبادئ الدين الخالدة.

فأول هذه المبادئ التوحيد أو تحرير الروح من عبادة أي شيء أو أي شخص، فلا نعبد إلا الله وما قدم للبشر من دستور للخير والتقدم، ومن هذه المبادئ روح التضامن في المجتمع الإنساني التي جعلت للفقير حقاً في مال الغني معالجة بذلك الفقر ومشكلاته وعواقبه، مع مراعاة ما يوسع به (الاجتهاد) على المؤمن المفكر من إيجاد الحلول الجديدة في الظروف الاجتماعية الجديدة.

ومنها الدعوة الحقة إلى الأخوة الإنسانية دون تفرقة بين أسود وأبيض، أو أصفر وأسمر إلا بالإيمان بالله والإنسان، ومنها التسامح الديني الذي جعل من بلاد الإسلام في العصور المظلمة الموطن الوحيد الذي لا يلقى فيه الإنسان اضطهاداً، بسبب عقيدته الدينية".

ويختتم محفوظ مقاله قائلا: "أخيراً وليس آخر، مبدأ الجهاد في سبيل الحق، الذي يدعو المسلم للعمل على تحقيق هذه المبادئ بما في وسعه من قوة القلب واللسان أو اليد، وعلى ضوء هذه المبادئ ينبغي لنا أن نحاسب أنفسنا، وأن نسائلها عن موقفنا الحقيقي من الدين الذي نؤمن به والله الذي نعبده".