ابن خلدون وتاريخ الأمم
أحداث التاريخ عظة وعبر، إذ تتكرر مشاهدها ورواياتها عبر العصور. يتغير زمنها وموقعها وأشخاصها، لكنها تكون حاضرة بتكرارها وتماثل لقطاتها وتشابه نتائجها وآثارها، ولذلك فإن الأمم والدول والأشخاص الذين أدركوا ذلك فقرأوا التاريخ وتمعنوا في حقائقه هم فقط من استدامت دولهم، أو ارتقت أمتهم، أو خلد أشخاصهم، بل وتتعطر ذاكرة التاريخ بتقليب صفحاتهم ومطالعة سيرهم. وأما غيرهم فلا نصيب لهم من صفحاته. ولعل ابن خلدون من أكثر من أبدع في تعقب تاريخ الدول وتسطيره للعبر والحكم والعظات التي تستخلص منه، وتحديده للنسق الذي ينبغي أن تسلكه الدولة أو الأمة لإحداث التغيير، ولا يتأتى لها ذلك إلا بتغليب إرادة الشعب وعدل السلطة وتكامل الأدوار والبناء، وفِي معيته إقصاء المزيفين لخيار الأمة والبطانة الفاسدة التي تبتلى بها الدولة. يقول ابن خلدون عن بطانة السلطان: "فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه، حتى يرسخ قدمه معهم، وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة".ويضيف: "ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدّون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع، إنما دأبهم الخضوع له، والتملق، والاعتمال في غرضه؛ فيتسع جاههم، وتعلو منازلهم، وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر، بما يحصل لهم من قبل السلطان، والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة (أي خيرة أهل البلدة) فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم، لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من الحكومة، إلى أن تنقرض الدولة".
وبنظرة سريعة لعدد من الدول العربية تجد أنها في تراجع مخيف، بعد أن كانت مزدهرة حينما حكمتها الملكيات، وآلت إلى ما يشبه الانهيار بعد أن تحولت لجمهوريات، ومن أمثلة ذلك العراق ومصر وليبيا، وهناك من يعيش بين ظهرانينا في دول عربية عديدة كما بالبلد، وقد نجح، لسبب أو آخر، أن يمسك بمفاصل مهمة في الدولة، ترتب عليها أن شغل مواقع مؤثرة وحساسة، دون أن يكون مؤهلاً لهذه المواقع، لا أمانة ولا قوة، وهي مرحلة اعتيادية في حياة الأمم والدول، كما يخبرنا به ابن خلدون وكما تذكره صفحات التاريخ وأحداثه. وقد حاول هذا البعض المهيمن أن يوهمنا بأن أحوال الفساد وأوضاعه في هذه الدول، مصدره وتقوم به الدولة العميقة، وكأنه يشير إلى مراكز قوى خارج نطاق الحكومة، بل ويحاول إقحامهم، لغاية في نفسه، وهي أبعد ما يكون عن الصدق وتحقيق مصلحة الوطن، وهو ما ندرك تماثل حدوثه في صفحات التاريخ، التي حدثنا عنها ابن خلدون. والمؤسف هو أن ما تمكّن أولئك البعض من نشره وتداوله، تحت هذا الإيهام وترديد ذلك، هو ما تتمناه "عصابات الفساد" التي تدير المشهد بمجموعة من السياسيين وأصحاب المال والمتنفذين الفاسدين، وهذه المجموعة لديهم ثراء فاحش مصدره فاسد وإعلام مأجور، والحقيقة أن الدولة والشعب ورجالاتها برآء منهم.ولو حاولنا أن نتفحص حالنا في الكويت، فإننا سنجد أن التراجع والتقهقر مرجعهما أن هؤلاء هم من يدير المشهد السياسي العام، لكون مفاصل مهمة بالدولة تحت سيطرتهم، والأكيد هو أن البلد لم يعد يسير بدرب الإصلاح، فهؤلاء لا يعرفون إلا مصالحهم، ولا يعبأون إلا بكيفية إثرائهم على حساب الدولة أو نهب مقدراتها واستمرارهم في مواقعهم المهمة بالدولة. إن التعاطي مع حالة الفساد وعدم قدرة عجلة الإصلاح على الدوران ينبغي أن تدرك مسبباته وأطرافه بتغلغلهم في الدولة، وسعيهم بشكل حثيث لإقصاء كافة الأطراف الأخرى تحقيقاً للتفرد، الذي يمكنها من رهن البلد بوجودها كي تكمل مشاهد هيمنتها على البلد بالكامل، مع نشر هذه الفئة ثقافة الفساد وتعزيز نماذج الفاسدين، حتى يحبطوا تضافر أية جهود رسمية أو شعبية تسعى للقضاء عليهم وعلى فسادهم، ومن هنا ندرك لماذا تم إفراغ وتعطيل مؤسسات البلد الرقابية بجميع مستوياتها. ولكن ثقتنا بحتمية التغيير، التي هي سنة الله، وإيماننا بوجود قدرات وإمكانات كامنة هما سبب ثقتنا بأن مآل البلد هو النهوض والعودة لسابق عهده.