ظل دور النجف، عاصمة الشيعة الكبرى في العالم، قريباً من الانحصار طوال أعوام في نوع تأثيرها على القرار السياسي العراقي وحركة كواليس الأحزاب في بغداد، لكنها اليوم تتطلع إلى دخول قواعد عمل جديدة أكثر وضوحاً يمتد تأثيرها خارج البلاد، بعد أن تكرست مرجعية السيد علي السيستاني كطرف مناصر للسياسات المعتدلة، على النقيض من اتجاهات التشدد الإسلامية عامة، مع بروز دور لفئة شباب النجف المتمردين باندفاع على المواقف الدينية التقليدية.ويزدحم مطار النجف يومياً بآلاف الزائرين الإيرانيين ومن شبه القارة الهندية، إلى جانب حضور واضح للهجات الخليجية لشيعة المنطقة الذين يقبلون على زيارة ضريح الإمام علي بن أبي طالب ومراكز الحوزة العلمية، إلا أن الأمر المختلف هذه المرة هو الحضور المكثف لزائرين من شمال البلاد السني والمسيحي والكردستاني، في لحظة انفتاح جديدة على هذه المنطقة ذات النفوذ الثقافي والسياسي.
وخلال أسبوع نجفي واحد، رصدت «الجريدة» في تجوالها هناك، مجموعة فعاليات تتجاوز الدور السياسي، محاولةً الانتقال إلى دور اجتماعي ينفتح على شباب المدن والطوائف الأخرى، وتدشين حوار مع رجال الأديان العراقية القديمة مثل المسيحية والديانات المهمشة مثل الأيزيدية والتصوف الكردي والتركماني الشائع شمالي البلاد، وكذلك الفعاليات في غرب البلاد السني.وخاضت مرجعية السيستاني مواجهات حادة مع رئيس الحكومة السابق نوري المالكي ونفوذ حرس الثورة الإيراني خصوصاً منذ ظهور تنظيم داعش عام ٢٠١٣، ونجحت في بناء تحالفات مع القوى المدنية العابرة لطوائف العراق، ونجحت لاحقاً في كبح جماح خطابات الكراهية والانقسام الطائفي التي فتكت بالعراق أعواماً طويلة، كما دعمت النجف بحماس تطبيع العلاقات مع المحيط العربي وباقي مراكز القوى السنية في العالم الإسلامي، عقب سنوات من الحساسيات الطائفية التي ساهمت في عزل العراق منذ سقوط نظام صدام حسين قبل ١٦ عاماً.وتحمس شباب أكراد وأيزيديون فقاموا بتأليف مقطوعة موسيقية اسمها «النجف»، حيث عزفت الدفوف وآلات السنطور والقانون في قلب المدينة، بحضور رجال دين ومسؤولين نجفيين وبنات وأولاد محليين ينشطون لصوغ صورة حديثة لمدينتهم، في حدث كان يبدو نادراً وسط حساسية المؤسسة الدينية من الموسيقى في الغالب.وعلى هامش هذه اللقاءات والاحتفاليات التي تنظم نهاية الربيع وكانت تكررت في الشهور الماضية، حسبما أفاد ناشطون شباب خلال حديث مع «الجريدة»، كان رجال ونساء من المجتمعات السنية والمسيحية في الأنبار والموصل، يقولون إنهم ظلوا سنوات يخشون زيارة النجف، لأنها كما يفترض تمثل عاصمة التشيع الناقم على السنة، غير أنهم اليوم يجدون متعة كبيرة في اكتشاف المدينة ذات الامتداد التاريخي، والتي نشأت على تراكم حضري منذ عاصمة المناذرة المسيحية العربية المعاصرة للفتح الإسلامي، ثم مدينة الكوفة المجاورة ومساهماتها التاريخية في تأسيس حضارة المسلمين الأولى.ومنذ زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني الشهر الماضي لمرجعية النجف العليا، التي تلتها زيارة مماثلة قام بها نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، تولي مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الدولية اهتماماً بما تسميه رسائل النجف الحريصة على تمييز نفسها عن سياسات مرشد الثورة الإيراني.ويقول ناشطون نجفيون إن انفتاح الآخرين على مدينتهم يكرس دورها كداعمة للاعتدال في العالم الإسلامي مقابل تشدد أطراف إيرانية وعراقية وجهات أخرى في المنطقة، لكن وجود كل هذه الفعاليات الفنية والثقافية، التي تمثل تنوع العراق، يمنح التيار النجفي المنفتح قوته أيضاً في مواجهة تشدد اجتماعي وسياسي لا يزال موجوداً في النجف ويرتاب من هذا الانفتاح الآخذ في التزايد.
أخبار الأولى
النجف تتطلع إلى «دور جديد» وسط عواصف الإقليم
08-05-2019