تنوير : في بيوت الآخرين
بالإمكان أن نرى أنفسنا بعيون الآخرين؛ أي بقيمهم وتصوراتهم عن الصواب والخطأ. ولا بأس أن نتفهم كيف يروننا، وأن نحاول كسب رضاهم، أي صنع سلام مع العالم المحيط بنا، عبر الاتساق مع ما يراه المحيطون ويعتقدون أنه الصواب. لكن الخطر كل الخطر أن تتحول قيم الآخرين إلى شبح يتلبس العقل فيمنعه من التفكير، ويحتل الروح فيمنعها من التنفس بحُرية وممارسة تجربتها الخاصة في العالم. أن تكون متسقا مع المجتمع لا يعني أن تفقد لونك ورائحتك وطعمك الخاص. هي معادلة صعبة، ولكل اختيار ضمنها ثمن مدفوع حتما.الفقرة السابقة تعبِّر عن رسالة تأولتها في رواية الكاتبة ريم الهاجري: "في بيوت الآخرين"، التي يمكن لأي قارئ أن يصل إليها أو إلى غيرها، وفق توجهاته وأدواته في القراءة. ولأن تأويل النص الروائي ليس آخر المطاف، فقد وددت أن أقف عند بعض الملاحظات حول هذه الرواية.ريم الهاجري كاتبة كويتية شابة، خرجت ضمن تيار من الشباب يريد التعبير عن صوته، وإعلان التمرد على أشياء كثيرة، منها: قواعد النشر، وتقييمات الكبار لكتابات الشباب وتجاربهم. لكن ريم ضمن هذا الجيل المتمرد اختارت أن تتتلمذ على يد أحد كبار الكُتاب الكويتيين والعرب، وهو الراحل إسماعيل فهد إسماعيل. وهي في اختيارها هذا تعلن انتماء للإبداع في إحدى كبريات تجاربه، وتسعى لامتلاك أدواتها دون أن تتخلى عن ذاتيتها وتصوراتها عن نفسها وعن العالم.
ويبدو أن دأب ريم وإصرارها على الأمرين (أعني التعبير الحُر عن الذات وامتلاك الأدوات) أتيا ثمارهما في روايتها السابقة الذكر، والتي يصعب على كثيرين أن يكتشف أنها الرواية الأولى، بمقياس الأدوات والرؤية وانسياب السرد. من زاوية الفنيات سنجد قدرة كبيرة على السبك، وربط الفصول والشخصيات في خطوط سردية متقاطعة بسلاسة، لا يمتلكها إلا قليل ممن لهم خبرة في الكتابة، كما سنلمح شيئا فريدا بالنسبة لرواية أولى، وهو قدرة الكاتبة على وصف تفاصيل الشعور، دون التصريح باسمه؛ كأن تصف حالة التشفي في أعين الأطفال الصغار بلغة طفلة في سنهم، دون أن ترد لفظة "التشفي" في وصفها، وهي مقدرة أحسبها تنبئ بوضوح عن موهبة أصيلة في السرد، وعن نفاذ بريء وصادق للنفس البشرية، يقوم على تجربة في العالم أفادت منها الكاتبة بوضوح.بعد قراءة "في بيوت الآخرين" يمكنني التبشير بمشروع روائية كبيرة إن أصرت ريم على تطوير أدواتها، وصبرت على طريق المعرفة الوعر، الذي يُعد الأساس الأهم لأي إبداع.