على سطح المركب من المغرب إلى نيويورك، أمضى شاهين وقتاً يستعيد فيه تفاصيل الأشهر المشحونة التي سبقت تحقيق حلمه بالسفر. كان الحلم امتلك خياله منذ لمح في عين زملائه نظرة إعجاب حقيقية بموهبته في الأداء وهو يلقي حوارات شكسبير بالعربية وبالإنكليزية معاً من دون أن يفقد قدرته على التعبير بإحساس مرهف. ولأول مرة يعود إلى البيت ويحكي للجميع عما حدث في المدرسة، ومع الوقت بدأ يفصح علناً عن رغبته في أن يصبح ممثلاً. لكن والده استنكر هذا التوجه وطالبه باستكمال دراسته ليكون شخصية مرموقة. وقد عبر شاهين عن هذا الموقف بعد سنوات طويلة في فيلمه «اسكندرية ليه؟»، مسجلاً اعتراض الأب على رغبته حينما قال له: إزاي ده يحصل بعد ما نصرف عليك دم قلبنا؟ أنا قبلت بالوظيفة علشان تقدر تكمل في مدرسة «أُبَهه» زي دي، علشان تتخرج وتبقى مهندساً، تقوم تيجي تقول لي عاوز ابقى ممثلاً؟!

لم يكن تمثيله مشهد هزيمة الملك ريتشارد الثاني الخطوة الوحيدة التي قطعها على طريق حلمه، ولكنه كان يعيش معظم وقته لهذا الهدف. لم يكن يفعل أمراً آخر غير التقرب من التمثيل والإلقاء. كان يشاهد السينما كدارس، ويذهب إلى المسرح كناقد، ويناقش زملاءه في الدراما والأفلام والرقصات الجديدة ومشاهد الاستعراض التي انتشرت في العالم أثناء فترة الحرب العالمية الثانية في الأربعينات، وغرامه بالنجمات ونجوم الاستعراض في تلك الفترة: ايستر ويليامز، وجنجر روجرز، وجين كيلي، وفريد استير وغيرهم من الذين أثروا في شاهين وأفلامه بعد ذلك.

Ad

السفر إذاً لم يكن مفاجأة سعيدة، ولا «ضربة حظ»، لكنه بطولة كبيرة سبقتها جولات وإنجازات وتجارب غرام بالفن. حتى أن شلة الأصدقاء في المدرسة تفهمت «الهوس الشاهيني» واندمجت فيه بتعاطف وفهم، وبدلاً من السخرية التي ظهرت في البداية بدأ التعاون والدعم، فقد دعاه أحد أصدقاء الدراسة إلى حفلة تحضرها إحدى أميرات الأسرة العلوية، واستطاع مع «عفاريت الشلة» أن يقنعوا الأميرة الثرية برعاية حفلة فنية في «فيكتوريا كوليدج» يقدمون فيها مسرحية هادفة مقررة عليهم مع بعض الاستعراضات والأغاني، لكن الحفلة فشلت في تحقيق أي إعجاب.

ويقول شاهين: «في ذلك اليوم كنت أضحك كالمجنون وسط دهشة أصدقائي. لم أكن يائساً ولا محبطاً لأن الحفلة فشلت. كان أجمل فشل في حياتي، لأني تعلمت منه قيمة مهمة جداً، وهي أن الفن ليس «طقة دماغ» ولكنه إلى جانب «الطققان والخيالات» تنظيم وإدارة صارمة، وهذا الدرس جعل مني مخرجاً متحكماً في تفاصيل العمل من الإنتاج والميزانية إلى ساندويتش الغداء إلى أصغر عامل. أضف إلى ذلك، أن الحفلة لم تكن فاشلة تماماً، تحديداً من سمعوا عنها، فقد أعجبهم الولد الذي يرقص كالنجوم الأميركيين، ويستطيع تنظيم حفلة للسمر تتفاخر بها العائلات الثرية، وذاعت شهرتي وأصبحت ضيفاً مطلوباً في كثير من الحفلات، خصوصاً أنني كنت مهتماً بالموسيقى».

يضيف شاهين: «غرامي بالموسيقى كان قديماً ويسبق غرامي بالتمثيل، لأن أبي كان يحب الموسيقى والغناء، وكان يغني في البيت بصوت مرتفع فنسمعه جميعاً، وكان يتجلى وصوته يرتفع أكثر وأكثر وهو في الحمام. ولم نكن نستهجن ذلك ولا نتضايق ولا نسخر، كان أمراً عادياً بالنسبة إلى أفراد البيت كلهم، وكان أبي عاشقاً لصوت أسمهان ويهتمّ بمعرفة مواعيد إذاعة الأغاني في الراديو حتى أنه كان يقول: افتح الراديو علشان نسمع فلانة هتغني. وما إن أشغل الراديو حتى ينساب الصوت، وكنت أندهش من هذه الدقة وأتعجب: لماذا لم ينجح رجل دقيق وفنان مثل أبي في شغل المحاماة الذي يتميز أيضاً بالدقة والإبداع؟ وأجاب أبي على ذلك مرة مصادفة عندما قال لي وسط حديث عادي لا أتذكره: الحب قوة هائلة، لو أحببت أي أمر ستتفوق به. وفهمت أن حبه للغناء كان سبباً في حفظ المواعيد والاهتمام بالتفاصيل، لذلك تعلمت منه التمييز بين الأصوات بدقة، واكتشاف الفروق البسيطة في طرائق الأداء، وكيف يؤثر ذلك في اختلاف المعنى والإحساس. مثلاً أم كلثوم كانت تعيد جملة معينة أكثر من مرة، لكن في كل مرة بطريقة أداء مختلفة فنشعر بمتعة إضافية وإحساس مختلف. كذلك تعلمت من أبي كيف أشعر بالموسيقى قبل أن أسمعها، بمعنى أن تدخل قلبي قبل أذني».

يضيف شاهين ضاحكاً: «لكن مع الوقت تفوقت على أبي في حب الموسيقى، ولو كان حياً لتعلَّم مني كي يرى الموسيقى أيضاً، لا أن يسمعها أو يشعر بها بقلبه فحسب، لأني حاولت في أفلامي أن أصوِّرها وأقدمها صورة وإيقاعاً بصرياً وليس نغمات فحسب.

هكذا كانت الموسيقى مكوناً أساسياً في أعمال شاهين، وكان يتدخّل في تفاصيلها، يختار بعناية شديدة الموسيقيين الذين يعملون على وضع موسيقى أفلامه. لم تشغله الأسماء «الرنانة»، بل من تمكنوا من إرضاء ذوقه الرفيع جداً، لذلك عمل مع ليلى مراد وفريد الأطرش وجارة القمر فيروز وقدم ماجدة الرومي بصورة رائعة تمثيلاً وغناء، وأسهم بنفسه في الألحان وتصوراتها. فالمقدمة الموسيقية لأغنية «آدم وحنان» الخاصة بفيلم «الآخر» هو ألفها إذ عزفها على البيانو وطلب إلى الملحن فاروق الشرنوبي أن يكمل اللحن بالمدخل نفسه. كذلك أغنية «خدوا عيني وشوفوا بيها» التي قدمها في «اسكندرية كمان وكمان» كانت فكرته وبداية اللحن من خلاله. ساعده على تنمية تلك الموهبة ومنذ كان طفلاً «البيانو» الموجود في المنزل، والذي نجح في أن يعزف عليه كثيراً من الأغاني والمقطوعات الموسيقية الشهيرة في ذلك الوقت، كان يعزفها «سماعياً» أي من دون قراءة النوتة الموسيقية، معتمداً على الإحساس بالنغمة وحفظه الألحان.

أول فيلم

يتذكر شاهين زميله في «فيكتوريا كوليدج»، الخواجة المصري غاوي الفن، قنبلة تقليد الأصوات عثمان راغب المشهور حينها وراهناً باسم «أوسي»، ويتذكر اليوم الذي أخبره فيه أن زميلهما نيكولا لديه كاميرا للتصوير السينمائي، واتفقا على إقناعه بإحضارها معه إلى المدرسة، واقترح شاهين تصوير فيلم ارتجالي عن المدرسة لتسجيل ذكرياتهم قبل الحصول على البكالوريا والتخرج.

شارك الثلاثة كممثلين في الفيلم (شاهين ونيكولاس دياب وعثمان راغب)، ووضع شاهين السيناريو الارتجالي وأخرج الفيلم الذي عرض مشاهد منه في «اسكندرية ليه؟»، ولأول وآخر مرة يظهر اسمه الأصلي على شارة فيلم بالحروف الإنكليزية (Joseph G Shahine) إذ تغير اسمه بعد ذلك إلى «يوسف» بدلاً من «جوزيف». كذلك تغير حرف (S) في بداية كلمة «شاهين» حسب النطق الإنكليزي إلى حرف (C) حسب النطق الفرنسي، وفي دلالة مهمة يكتب شاهين من دون حرف e في النهاية، ثم يضيفها بحركة «تروكاج» (طريقة بدائية مبكرة) بعد لحظة من كتابة الاسم.

كان الفيلم بعنوان «سكول لايف» أي حياة مدرسية، أو «حياة مدرسة»، وصوّر فيه واجهة المدرسة والمباني وحركة بعض المدرسين، ثم ركز على الأبطال الثلاثة كطلاب متمردين يتميزون بالفكاهة والنوم الكسول في الفصل وأعراض المراهقة. ورغم أن اللقطات كانت مرتجلة، والتكلفة الإنتاجية صفراً، فإن الحصيلة كانت فيلماً صامتاً متكامل الأركان، وضعه بعض المواقع السينمائية الكبرى في صدارة قائمة أفلام شاهين قبل «بابا أمين» مرفقاً بتاريخ العام 1944، في حين عُرض «بابا أمين» عام 1950، بعد ست سنوات من الفيلم الأول الذي يعتبره شاهين «البذرة» الصغيرة التي أدت إلى الشجرة الكبيرة، ويضحك وهو يقول: «كانت تجربة جميلة، فأنا أعاني راهناً لتوفير تكلفة إنتاج أي فيلم ولو كان قصيراً. أما تكلفة ذلك الفيلم فكانت 3 جيلاتي على الكورنيش».

كان العرض الأول للفيلم في حفلة منزلية من الحفلات التي كانت تقيمها عائلة نيكولاس والذي كان معظم عائلته يعيش في أميركا. كان الحضور من المثقفين وأثرياء الطبقات الراقية في الاسكندرية وأبدوا إعجابهم بالفيلم وبالأولاد، خصوصاً شاهين باعتباره صاحب الفكرة والإخراج والممثل الأبرز أيضاً بحركاته الخفيفة وهو يتثاءب وينام في الفصل ويخرج لسانه ويكتب الأسماء بالطباشير على السبورة. وفي هذه الليلة المميزة أثنى أحد الحضور المقيمين في أميركا على موهبة شاهين ونصحه بضرورة الدراسة في أحد المعاهد الفنية المتخصصة، لأن السينما لم تعد هواية ولا لعبة ارتجالية، لكنها صارت صناعة كبيرة ولها أكاديميات ومعاهد، وقال الفتى الطموح: «ليس في مصر معاهد لدراسة السينما اللي معاهم فلوس بيسافروا ألمانيا أو فرنسا وانت عارف الحرب عاملة إيه في أوروبا حالياً»، فاقترح رسول الحظ والمصادفة أن يدرس شاهين في أميركا.

تسارعت نبضات قلب الفتى وسأله: هل هذا ممكن؟ هل تقبلني المعاهد هناك؟ وكم تكون التكلفة؟ وما هو أفضل وأرخص معهد يمكنني الالتحاق به. وانطلقت عشرات الأسئلة من فمه كالمدفع الرشاش. فقال له رجل المصادفة: «أقترح عليك مراسلة معهد «باسادينا» في كاليفورنيا فهو مناسب جداً ومهتم بالأداء والتمثيل ومفيد لأي شخص يريد العمل في المسرح وفي السينما معاً، ومدينة باسادينا لا تبعد كثيراً عن مصنع الأحلام في «هوليوود»، حيث يمكنك التدرّب ودخول الاستوديوهات للتعرف إلى أحدث وسائل وطرائق التصوير وفنون العمل السينمائي».

المستحيل ليس مستحيلاً

منذ تلك اللحظة، لم يستطع «جو» أن يبعد فكرة السفر إلى أميركا عن ذهنه أبداً، فقد سيطرت عليه تماماً، وبدأت أحلام الشهرة والنجومية تكبر في وجدانه وترفع سقف طموحاته وتُصور له بأنه سيصبح «جين كيلي الاسكندرية»، أو «فريد أستير مصر»، فبات يحلم ليل ونهار بالسفر لدراسة التمثيل وفنون الأداء والرقص ويتعرف إلى صناعة السينما أيضاً. لذلك انهمك في التفكير والتخطيط، وكيف يحول هذه الأحلام إلى واقع؟ وكيف سيواجه عائلته برغبته في السفر لدراسة التمثيل؟ كان يعلم تماماً أن أحلامه حتماً ستتصادم مع تخطيط أفراد أسرته لمستقبله، «الصورة الذهنية الجاهزة» التي اجتهدوا لتتحقق بأن يصبح مهندساً كما يرغب والده، أو مصرفياً كما تطلب أمه... باختصار، يحصل على مهنة مرموقة توفر له المال والوجاهة الاجتماعية، وكلما شعر بإحباط من الردود المنتظرة للأسرة، كلما انهمك أكثر في البحث عن حل لا يضطره إلى التنازل عن حلمه، خصوصاً أن هذا الحلم صعب ومكلف ولا يناسب الظروف المادية «المتعثرة» لأبيه.

يقول شاهين: «كنت أعلم أن أهلي ليس لديهم ما يكفي لأكثر من توفير الطعام ونصف الملابس التي نحتاج إليها، كذلك كان من الصعب عليهم بعد موت ابنهم الأكبر أن يتركوا الصغير يسافر إلى بلد بعيد، لكنهم فعلوها... تحقق المستحيل. ادخروا واستدانوا وباعوا جزءاً من أثاث البيت كي يوفروا ثمن تذكرة السفر ومصاريف المعهد بما فيها تكلفة الإقامة الكاملة. فعلوا ذلك بحب وخوف أيضاً». يضيف ضاحكاً: «خافوا لأني هددتهم أني سوف «أنط من الشباك» وانتحر إذا لم أسافر».

التهديد بالانتحار لم يكن جاداً من الفتى الظريف، لكنه تعبير عن إصراره على تحقيق حلمه، مع مراعاة خوف الأسرة وتناقض مشاعرها بين حبها للابن الوحيد، ورغبتها في تعليمه وتأهيله لمستقبل عظيم، وبين خوفها عليه من الغربة والوحدة، وعدم مقدرتها المالية على تحمل نفقات سفره، خصوصاً أن معظم زملاء فصله الدراسي سافروا تباعاً إلى أوروبا وأميركا، فعثمان أمه نمساوية وعائلتها وفرت استضافة آمنة للأسرة، وعائلة نيكولا تقيم في أميركا منذ سنوات، وسمير من عائلة ثرية أصلها في القدس، وهكذا...

ويبدو أن سفر زملاء الابن أثر في الأب، فلم يقبل أن يعاني ابنه الوحيد الشعور بالنقص، والعجز عن المساواة مع رفاق الدراسة، فتحمس للبحث عن حلول مادية بالتعاون مع الأم والجدة التي دفعت كل مدخراتها (نحو 90 جنيهاً)، وهو رقم يتذكره شاهين جيداً، وأضافه إلى سيناريو فيلم «اسكندرية ليه؟».

تحقق المستحيل وركب شاهين سفينة الأحلام التي ستنقله من الإسكندرية إلى نيويورك (عبر ميناء كازبلانكا في المغرب لأن التذكرة أرخص). كان حلمه أن يصبح ممثلاً وراقصاً ونجماً من دون أن يخطر في باله في ذلك الحين أنه سيصبح مخرجاً سينمائياً. كان حلم التمثيل ترسخ في داخله منذ اللحظة التي اهتز فيها قلبه طرباً واعتدل مزاجه بعد تصفيق الزملاء له عقب أدائه مشهد الملك ريتشارد داخل الفصل الدراسي. لكن الحياة عادة لا تمضي وفق الخطط المسبقة، إذ تحدث مفاجآت تضطرنا إلى تعديل الخطط والمضي في دروب لم تكن في الحسبان. عندما وصل شاهين إلى ميناء نيويورك بدأت المفاجآت تنهال عليه ووضعت أحلامه كلها في مهب الريح.

وفي الحلقة المقبلة نتعرف إلى الصدمات والمفاجآت التي واجهت شاهين في أرض الأحلام.

«المزيكاتي»

إذا كان الإخراج مهنة يوسف شاهين فإن الموسيقى هوايته الأثيرة، ورغم عشقه للسينما فإنه في لحظات الصفا ومراجعة النفس يعترف فيقول: «كان نفسي أبقى مزيكاتي، بس المزيكا بتاعتي مرتبطة بالرقص والاستعراض والغناء، وهذه مفردات صعب جمعها إلا في السينما، لذلك حاولت أعلم السينما المزيكا لإشباع هوايتي والاعتذار عن تقصيري».

كلام شاهين يبدو واضحاً في أفلامه كافة تقريباً، فهو لا يستغني عن الاستعراضات والأغاني ويدمجها مع دراما الفيلم. حدث ذلك في «الأرض، والاختيار، والعصفور، واليوم السادس، واسكندرية كمان وكمان، والمصير، واسكندرية نيويورك»، وغيرها، إضافة إلى أفلام أدى بطولتها نجوم الغناء، وفي مقدمها «بياع الخواتم» للفنانة الكبيرة فيروز، و{عودة الابن الضال» الذي أطلق من خلاله موهبة الفنانة ماجدة الرومي، و{سكوت حنصور» أولى بطولات الفنانة لطيفة سينمائياً، كذلك الأفلام التي قدمها مع شادية ومع المطرب فريد الأطرش مثل «ودعت حبك» و{انت حبيبي» أو «سيدة القطار» للفنانة ليلى مراد، وأفلام أخرى قدمت نموذجاً ناجحاً لتكامل الرقص والغناء مع الدراما السينمائية.

البقية في الحلقة المقبلة .....