منذ اندلاع "انتفاضة السودان" في شهر ديسمبر عام 2018، لم نسمع الكثير عن عمر البشير، الرجل الذي كان يحكم البلد بقبضة من حديد طوال 30 سنة تقريباً، إذ تشير التقارير إلى أن النظام الجديد نقل البشير إلى سجن كوبر، تلك المنشأة الشهيرة الخاضغة لحراسة مشددة في الخرطوم، فقد احتجز نظام البشير الطويل المرعب آلاف السجناء السياسيين وعذبهم في هذا السجن، ولكن هل تدوم إقامته هناك بقدر فترات السجن الطويلة التي فُرضت غالباً على خصومه السياسيين؟ الجواب غير واضح، فما زال مستقبل البشير ومصير البلد غامضين.يُعتبر الغموض المحيط بالبشير منذ الإطاحة به متوقعاً من ناحية ما، فهو يبقى أحد القادة المستبدين الأكثر غموضاً الذين سقطوا خلال الموجة الإفريقية الطويلة الثالثة من التظاهرات التي بدأت نحو نهاية العقد الماضي، وبلغت ذروتها في عام 2011، واستعادت زخمها خلال السنتين الماضيتين، وبخلاف عبدالعزيز بوتفليقة، الرئيس السابق في الجزائر الذي أُطيح به قبل أسابيع من سقوط البشير، والذي لطالما ارتبطت صورته به في المخيلة الشعبية، لم ينجح البشير يوماً في كسب ولاء شعب السودان، كذلك لم يعتبره المجتمع الدولي قائداً مع أنه ظل في السلطة فترة طويلة.
يُعتبر غموض البشير مصطنعاً في جزء منه، فعلى سبيل المثال، كان يتكلم الإنكليزية بطلاقة، إلا أنه أبى إجراء مقابلات مع صحف إنكليزية، فشكّل هذا الغموض استراتيجية ساعدته في ترسيخ حكمه في بلد لطالما عُرف بانقساماته، وهكذا سمح له تقلبه العقائدي واستعداده لصوغ شراكات انتهازية في البقاء في السلطة باستغلال أزمة القيادة والوطنية الأشمل في السودان، ولكن يثير هذا الإرث اليوم أسئلة حول كيفية التعاطي مع هذه الشخصية التي يكرهها الجميع وسط الغموض والفرح اللذين خلفهما رحيله.تلتقي سير البشير الذاتية الرسمية وخطابات نعيه السياسية حول وقائع أساسية محدودة، حيث وُلد في عائلة بدوية متواضعة في شمال البلد النهري قبل أن يلتحق بالجيش ويتقدّم إلى أعلى المناصب القيادية، ولكن بخلاف ذلك، لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية، فضلاً عن أن ما يُشاع عنه لا يتلاءم حقاً مع شخصيته العامة. على سبيل المثال، لم يُعرف بسعيه وراء مظاهر البهرجة على غرار الحكام المستبدين الآخرين في إفريقيا، مع أنه ترأس نظاماً اشتهر بفساده وكدّس ثروة شخصية يُقال إنها تبلغ المليارات، بالإضافة إلى ذلك، رغم صيته كمرتكب مذابح لا يرحم، يُعتبر رجلاً محباً للعائلة (لم ينجب أولاداً بيد أنه ساهم في تربية أولاد زوجته الثانية)، ومع أنه حكم السودان ثلاثة عقود، يتحسر سودانيون قلائل على رحيله، ولا حتى أولئك الذين استفادوا من غناه، مثل الجيش ونخبة البلد الاقتصادية الضيقة.نظراً إلى حالة المواجهة الشديدة اليوم (بين القادة العسكريين الذين يكرهون التخلي عن السلطة والمتظاهرين الذين ما زالوا يطالبون بعملية انتقال مدنية فورية)، قد يبدو السؤال "ماذا يجب أن نفعل بالبشير؟" مصدر تلهية، لكن تجاهل هذه المسألة قد يؤدي إلى عواقب طويلة الأمد، فقد فشل السودان مرتين في السابق في تحويل ثورة شعبية إلى ديمقراطية دائمة، ولطالما كانت المشكلة الرئيسة عجز البلد عن صوغ هوية وطنية شاملة. وفي ظل غياب هذه الهوية استغلت النخب السياسية الانقسامات الإثنية والدينية لترسّخ حكمها، حتى حركة التظاهر الحالية، التي تتمتع بقاعدة واسعة وتنوع كبير، تواجه صعوبة في الترويج لرؤية وطنية تتخطى استبدال الجيش بحكومة مدنية.يمكن لكيفية التعاطي مع البشير أن يخدم مسعى توليد حس وطني بوحدة الهدف أو يقوّضه، وقد دعا مراقبون دوليون كثر النظام الجديد إلى تسليم الحاكم السابق إلى المحكمة الجنائية الدولية ليُحاكم، ولكن إذا ظل البشير في السودان من دون محاكمة، فقد يُمنح هو وشخصيات أخرى مرتبطة بنظامه مقداراً من الحصانة كجزء من عملية هدنة ومصالحة على غرار ما شهدناه في جنوب السودان، إلا أن هذه المقاربة قد تكون على الأرجح الأكثر صعوبة والأكثر قدرة على تقديم مكافآت حقيقية، وقد ترغم عملية هدنة ومصالحة مماثلة السودانيين على خوض محادثة مكبوتة منذ زمن حول الأذى الذي سببه نظام البشير لأشخاص محددين وللمجتمع السوداني ككل خلال العقود الثلاثة الماضية.لعمليات الهدنة والمصالحة سجل مختلط في الدول التي حاولت تطبيقها، ولا شك أن أي نقاش لمنح رجال النظام عفواً أو عقاباً مخففاً سيثير استياء ضحايا كثيرين، فضلاً عن المتظاهرين الذين يطالبون بالقصاص منه أمام العدالة، لكن الأمم التي تسعى إلى المضي قدماً بعد الصدمة تُضطر إلى مواجهة تاريخها المؤلم، وإخفاق السودان في تأمل ماضيه أو بناء مشروع وطني شامل بعد الانتفاضتين الشعبيتين السابقتين سمح للجيش بالاستيلاء على السلطة في المقام الأول، لذلك تُعتبر عملية هدنة ومصالحة حقيقية الطريقة الفضلى لمنع التاريخ من تكرار نفسه مرة أخرى.*«زكريا مامبيلي»
مقالات
بعد البشير
09-05-2019