«كان نهاراً حزيناً، لكنني تذكرته طويلاً بعد ذلك. مرت خمسة أسابيع كاملة لم تصل إلي فيها أية رسائل من مصر. مجدداً سألت إدارة المعهد في «باسادينا» السؤال نفسه، وتلقيت الرد «المقلق» عينه: لا رسائل لك. خرجت من المعهد مشوشاً لا أقصد أية جهة. لم تكن لدي رغبة في العودة إلى السكن. مشيت في شارع «إل مولينو» الطويل كأنني أبحث عن عنوان لا أعرفه. عرجت على الشارع الأخضر، ومنه إلى شارع «كوردوفا». وفي لحظة إشراق خاطفة لمع في رأسي الاسم لأول مرة، إنه يعني «قرطبة»، وهذا يفسر الطراز الأندلسي الذي لفت نظري في تصميم مبنى «باسادينا بلاي هاوس». الشباب يتحركون بحيوية وصخب، المطاعم والمحال ذكرتني بأجواء الاسكندرية، فهذا المكان يشبه إلى حد كبير «اثينيوس»، حيث عزمت أصدقائي على «باستا» وودعنا «ايليتا» صاحبة المكان التي كانت ترحب بعفاريت «الشلة» وتعاملنا بشكل خاص ومشاعر طيبة.

لم تكن لدي رغبة في الدخول أو الجلوس في أي مكان. مشيت نحو شارع كورسون ومنه إلى شارع كولورادو، حيث مبنى السينما الذي أفضله، لكنني فجأة تذكرت تدريب الأمس في المعهد مع مستر «غرانت مارشال»، أستاذ الكتابة المسرحية وفنون إنشاء العرض، وقررت العودة إلى غرفتي فوراً، لأنني أردت أن أبكي وأن أكتب بعض العبارات التي تلاحقت في رأسي».

Ad

كان يوسف شاهين في حالة قلق عنيفة بعدما انقطعت أخبار الأهل في مصر فترة طويلة، وكانت الأخبار في الفترة التي سبقت التوقف تدور حول مرض الأب والأزمات المالية، ويقول شاهين: «فجأة اسكندرية «هرشتني»، الذكريات صحيت مرة واحدة و{نطت في وشي». عاد إلى غرفته مرهقاً من المشي ومنهكاً من الجوع، فهو لم يأكل منذ تناول إفطاره البسيط في الصباح، ومع ذلك لم ينم، ولم يأكل شيئاً، جلس على المكتب وبدأ يكتب: «الأرض الطيبة زي الأم الحنون... بيتك مستنيك، وأصحابك مشتاقين، ارجع يا «جو».

القرار الحاسم

منذ هذه اللحظة سكنت فكرة العودة رأس شاهين، كما سكنته تعبيرات كتبها من وحي القصة الفولكلورية التي كان يساعد فيها مدربه «غرانت مارشال»، وهي حكاية شعبية من تراث الهنود الحمر عن شاب يحب فتاة ولكنه لا يطيق البقاء في المكان، فيهاجر إلى المدينة الكبيرة حيث الضياع والمصاعب التي هددت ذكرياته ووجدانه، فيقرر العودة. كانت هذه الجملة نواة سيناريو فيلم «ابن النيل» الذي بدأ شاهين كتابته في تلك الليلة الحزينة، لكنه أعاد صياغة العبارة لتناسب أحداث الفيلم واسم الشخصية وجاءت على لسان عالم الأزهر الذي يؤم الصلاة داخل السجن فيتعرف إلى بلدياته وصديق الطفولة «حميدة»، فينصحه بالعودة إلى بلده بعد انتهاء فترة السجن (وكأن شاهين شعر بأن الفترة المتبقية له في المعهد للدراسة مثل عقوبة يجب أن يقضيها ثم يتحرر بعدها).

أما العبارة التي دونها شاهين ليلة القلق في «باسادينا»، فقد ظهرت على شاشة العرض ضمن حوار «ابن النيل» كالتالي: «حِميدة أنا عرفت انك خارج من هنا قريب.. هترجع بلدك وللا لأ؟ حميدة... حد يهمل الجنة اللي كان فيها؟ الأرض الطيبة زي الأم الحنون... بيتك مستنظرك يا حميدة. ارجع لبيتك... ارجع لغيطك... ارجع لأهلك».

بعد أيام أخبر شاهين أساتذته بضرورة عودته إلى مصر، واعتذر لإدارة المعهد عن عرض التدريس فور التخرج. ورغم أن الأسرة تواصلت معه بعد ذلك، فإنه بعد أشهر قليلة من ذلك اليوم كان أنهى دراسته عند هذا الحد وعاد إلى الاسكندرية.

يقول شاهين: «قررت العودة إلى مصر رغم أن كان بإمكاني الإقامة في أميركا والعمل بالتدريس في المعهد، ثم البحث أثناء ذلك عن طريق للعمل في هوليوود. وحاول أساتذتي، خصوصاً «غرانت مارشال» و{والتر تيشان» إقناعي بالبقاء والتدريس ولكنني رفضت، لأن رسائل الأهل لم تبعث في نفسي الطمأنينة، وزادت تعبيرات الشوق، وكثر السؤال عن موعد العودة، لذلك حسمت أمري. ومع الوقت ارتحت لهذا القرار، لأنني لما انهمكت أكثر في الكتابة شعرت برغبة جارفة في أن أحكي عن أناس أعرفهم لأناس أعرفهم»، وهذا لن يحدث إلا في مصر، لأنني كنت أوشكت قبل العودة على الانتهاء من سيناريو «ابن النيل» كاملاً. كذلك كانت لدي مشاهد كاملة من فيلم «بابا أمين»، بالإضافة إلى ملاحظات ومشاهد متناثرة أفادتني في عملي بعد ذلك.

الإسكندرية... أين؟

عندما عاد شاهين إلى الاسكندرية، شعر بأن كل شيء قد تغير، حتى البحر لم يعد كما كان، فقد سافر معظم الأصدقاء، وبدأت القاهرة تسرق المبدعين من المدينة الموهوبة. الحرب العالمية توقفت، وعاد كثيرون إلى بلدانهم، ما أثر في حركة الرواج التجاري وصخب المجتمع. كذلك تراجعت الحركة الفنية بعدما زاد الإنتاج السينمائي في استوديوهات القاهرة، وانكمشت مجموعات السينما في الاسكندرية ولم تستطع المنافسة تجارياً. ومن بين المجموعات التي ارتبط بها شاهين قبل سفره «مجموعة السينمائيين الطليان»، و{جماعة الأتيليه»، وصديقه القديم المصور «ألفيزي أورفانيللي» الذي يكبره بسنوات ولكنه يحتفظ بروح شابة وحيوية تثير الإعجاب. وتكررت اللقاءات مع سينمائيين آخرين في ملتقيات الاسكندرية الثقافية وفي سهرات اجتماعية في منزل شقيقته آيريس التي كانت تزوجت من المنتج والموزع السينمائي جان خوري، الذي أسس شركة للإنتاج والتوزيع باسم «الشرق» مع شريكين آخرين هما باسيلي ومحمود شافعي. وفي إحدى السهرات عرض أورفانيللي على شاهين مساعدة صديق جاء من إيطاليا قبل فترة للعمل في السينما، ولديه أفلام كثيرة يريد أن ينجزها في الوقت نفسه ويحتاج إلى مساعدة.

يقول شاهين: «شعرت بأن السكة مسدودة في وجهي، وقلت لنفسي: أنا الظاهر شربت مقلب العودة، فالبلد كان دمها غير ظريف، وأخبار الحرب مع اليهود أكلت دماغ الناس، لدرجة أني لم أجد شخصاً يسمعني. كل الناس يتكلمون، وكلهم خائفون ولا يفهمون، ويركضون ويتصادمون مع بعض... لكن لا بديل، لا بد من أن أعاند وأواصل».

لهذه الأسباب وافق شاهين على فكرة العمل كمساعد رغم أنه كان يرفضها في المبدأ. ولكن حسب تعبيره «الظروف طلبت»، فقد مضت أشهر منذ عودته ولم يتحمس أحد لإنتاج سيناريو فيلمه عن «الريفي المتمرد». وفي اليوم التالي رتب أورفانيللي لقاء تعارف بين شاهين وبين بلدياته المغامر «جياني فيرنوتشو» الذي قدم بعض التجارب الضعيفة في إيطاليا قبل أن يأتي إلى مصر ليعمل ويستثمر في السينما، فقد كانت مصر في الأربعينات نقطة جذب للأموال وللبشر، بسبب الحرب العالمية التي دمرت أوروبا ودفعت مئات الآلاف إلى الهجرة إلى مدن آمنة في أنحاء العالم، وكانت الاسكندرية في مقدمة المدن الجاذبة للفنانين وأصحاب المواهب في السينما والموسيقى والفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي. وخلال فترة وجيزة استطاع «فيرنوتشو» أن يتفق على تقديم أفلام عدة، وأن يكون شاهين مساعداً دائماً له، وليس في عمل واحد. ولكن اسم شاهين لم يرتبط إلا بفيلم واحد هو «امرأة من نار» الذي التقى فيه لأول مرة بالممثل رشدي أباظة، زميل الدراسة في الفرير حيث التحق معه بمدرسة رهبان «سان مارك» في المرحلة الابتدائية فحسب، ولم تكن بينهما صداقة قريبة، بل مجرد تعارف من بعيد نظراً إلى وجود اختلاف كبير في الطباع. وفي هذا الفيلم كان أباظة قريباً أكثر من «فيرنوتشو» وتبدو العلاقة بينهما وطيدة أكثر خصوصاً أن والدة رشدي من عائلة إيطالية. وعلى كل حال ظلت علاقته مع رشدي اباظة متوترة، وبحسب شاهين: «كنت أحبه واستجدعه ولكننا كنا على نقار دائم».

عموماً، يمكن القول إن الفيلم التجاري الضعيف فنياً والذي عمل فيه شاهين مساعداً كان مفيداً له في تكوين شبكة علاقات في الوسط، حيث تعرف إلى المصور ماسيمو دالامانو وتعاون معه في مرحلة البدايات. كذلك أشرف على تصوير أغنية باللغة الفرنسية قدمتها الفنانة كاميليا قبل موتها المأساوي في حادث سقوط طائرة قبل عرض الفيلم بأشهر قليلة.

ومن المفارقات التي تستحق التأمل بعمق أن هذا «الفيلم الضعيف» كان له أثر خفي في الطريقة العملية التي صاحبت توجهات شاهين السينمائية، بعضها سلبي حاول أن يتجنبه ويتعلق بطبيعة الموضوعات السطحية المبتذلة عن الخيانة و{الثالوث الفرنسي الشهير (الزوج/ الزوجة/ العشيق)، وبعضها إيجابي مثل الأسلوب الغنائي الاستعراضي والبحث عن نوافذ للعرض في أوروبا، لأن هذا الفيلم تصدرت تتراته عبارة: «أول فيلم من نوعه يعرض في القاهرة وأوروبا في وقت واحد»، وهي جملة داعبت خيال وطموحات شاهين طوال مسيرته حتى حققها في السنوات الأخيرة.

كلمة السر «فيرنوتشو»

كان فيرنوتشو اتفق مع شاهين على مساعدته أيضاً في فيلم «دماء في الصحراء» ولكنه اعتذر عن عدم الاستمرار في العمل، وأسندت المهمة إلى اثنين من المساعدين المصريين وإلى زوجة فيرنوتشو التي كانت تقوم بالأمور كافة حتى التمثيل في الفيلم، ما يوضح طبيعة الإنتاج الرخيص لسينما فيرنوتشو.

لكن رغم اعتذاره فإن شاهين كان يحضر التصوير في «استوديو مصر»، وتعرف إلى كثير من الفنيين والفنانين العاملين في الفيلم، كالممثل الإيطالي «أرماندو لازارو» الذي ظهر في أفلام فيرنوتشو كافة، ومع شاهين في «ابن النيل»، كذلك المصور فولي الذي عمل مع شاهين في «المهرج الكبير»، ومهندس المناظر شافنبرج، والموسيقار ابراهيم حجاج، وغيرهم كمدير المعمل ألدو سيلفي الذي أدى دوراً بارزاً في مسيرة شاهين الأولى. ويبدو أن المخرج العائد من أميركا تأثر بجو الصحراء وموضوع الفيلم فقدم فيلماً قريباً من الموضوع نفسه بعد ذلك بعنوان «شيطان الصحراء» قام ببطولته عمر الشريف، وكتبه المهندس حسين حلمي الذي أدى دوراً كبيراً في البداية الاحترافية لشاهين في السينما (نتعرف إلى دوره بالتفصيل لاحقاً).

تعرف شاهين أيضاً إلى ظروف الإنتاج في أفلام أخرى أنجزها فيرنوتشو في الفترة نفسها مثل «انتقام الحبيب»، وهو فيلم مليء بالممثلين كسامية جمال، وفتاة تونسية أطلقت على نفسها اسم «حسيبة رشدي» وتعد إحدى أوائل الممثلات التونسيات في السينما المصرية، وهي نفسها بطلة «دماء في الصحراء» وتجمع بين الرقص والغناء والتمثيل. لم يشارك شاهين في تصوير هذا الفيلم إطلاقاً، وتوقفت علاقته به على مناقشات وجلسات حضرها مع فيرنوتشو في مكتب المنتج علي الجابري بشارع توفيق وسط القاهرة، والتقى فيها كلاً من يحيى شاهين وفريد شوقي ومحمد توفيق، وقد تأجل تصوير الفيلم كما تأجل عرضه إلى ما بعد فيلم شاهين الأول.

ثمرة التمرد

لم يستطع شاهين الاستمرار في دور المساعد، ولم يقبل العمل في أفلام تجارية ضعيفة لا تمثل طموحاته لا في الموضوعات ولا في الشكل السينمائي. ولكنه لم يجد منتجاً يقبل بأفكاره، ولم يجد من يسند إليه فيلماً وهو لا يزال شاباً بلا خبرة. تحدث إلى فيرنوتشو في ذلك، لكنه طلب إليه عدم التعجل لأن السينما مسؤولية كبيرة ولن يغامر أي منتج بأمواله ويسند العمل إلى شاب في أول الطريق.

يقول شاهين: «شعرت بضيق. كنت أريد أن أكوِّن نفسي، وفكرت في العودة إلى الاسكندرية والتفكير في مستقبلي مجدداً بعيداً عن الضغوط التي أعيش تحتها في القاهرة، لأن طموحاتي تكاد تضيع في زحام السوق وحصاري كمساعد تنفيذي في أفلام الغير. ومن سوء حظي أنني بدأت العمل كسينمائي محترف مع «خواجة مغامر» يتعامل مع السينما باعتبارها استثماراً مادياً لتحقيق الربح. لذلك قررت استكمال الأيام الباقية من تصوير «امرأة من نار»، وبعدها أسافر إلى الاسكندرية وربما أفكر في العودة إلى أميركا إذا لم أجد فرصة لتحقيق طموحي في مصر.

لكن الحظ السعيد كان يرتب أمراً آخر لشاهين، فقد توقف تصوير أحد الأفلام بسبب خلاف بين المنتج والمخرج، فاقترح المصور الكبير الفيزي أورفانيللي أن يستكمل شاهين المشروع، وقدمه باعتباره مخرجاً عائداً «طازة» من هوليوود.

يقول شاهين: «رفضت طبعاً واعتذرت عن عدم استكمال الفيلم (لا مخرج ولا مساعد حتى)، لكن ما لا يؤخذ كله لا يُترَك كله. رميت «صنارتي» في المياه، ربما تصطاد السمكة، وعرضت على القيمين على الشركة فكرة تقديم فيلم جديد وقلت إن الورق (السيناريو) جاهز بالتفاصيل كافة، وكانت المفاجأة السارة أنهم لم يرفضوا، ووجدت آخرين غير أورفانيللي يتحمسون لفكرتي. وعندما سألوني عن تفاصيل الفيلم قلت إنه قصة حب بين شاب وفتاة من الصعيد، يهرب من بلده بسبب الفقر والفيضانات، ولكن المناقشات والملاحظات بدأت حول القصة، ولمست أن حماستهم بدأت تفتر بعد أيام، حتى قال لي أحدهم بصراحة: شوف فكرة تانية، الموضوع ده مش مناسب حالياً والسينما تتكلف كثيراً ولا أحد يرغب في الخسارة. هكذا ساعدت الظروف في تأجيل مشروع «ابن النيل» وفتح الطريق إزاء البداية الاحترافية لشاهين في فيلم «بابا أمين».

«دراما البدايات» التي صاحبت تقديم شاهين للشاشة مليئة بالغموض والإثارة والهوس بالنجمات وأيضاً بالسرقة والاختلاسات وحياة البوهيمية والتحرر بين الأثرياء وأبناء الطبقات الأرستقراطية، كذلك بين أثرياء الصعيد والريف الحالمين بغزو شاشات الشهرة وسهرات أهل الفن المخملية في ليل المدينة المليء بالحكايات.

وفي الحلقة المقبلة، نتعرف إلى دراما البدايات من خلال معلومات تنشر لأول مرة عن الجوانب الغامضة في سيرة شاهين.

رواج

أكد شاهين أن «السينما المصرية كثيراً ما قدّمت روايات تجارية من أجل شباك التذاكر، لكن هذا الرواج التجاري ليس عيباً. على العكس، كمية الإنتاج عندما زادت أعطت الفرصة لدم جديد وجيل مختلف وموهوب من مخرجين نجحوا في تقديم مواضيع جديدة للسينما. مثلاً، قبلنا كان كل من بركات ونيازي مصطفى وصلاح أبو سيف وأسماء كثيرة ومهمة، نجحت في أن تكون لها بصمتها الخاصة. وأنا للحقيقة، لا أخجل بالاعتراف لكم أنني قبل عملي في السينما كنت أتمنى أن أرى بركات وجهاً لوجه أو أن أصافحه ولو لثوان وأتبادل معه التحية».