في مقال الأحد الماضي تحت عنوان "البواعث النبيلة لقانون حظر تعارض المصالح لا تضفي عليه الدستورية" باعتبار ما قررته المحكمة الدستورية في حكمها القاضي بأن حرص المشرع على مكافحة الفساد لا يكفي لإضفاء الدستورية على القانون إذا لم يلتزم ضوابط الدستور، وأنه لا داعي للعجلة في إصدار قانون جديد، كما لوح بذلك بعض الأعضاء، وهي العجلة التي كانت خلف العوار الدستوري لهذا القانون رغم ما تزخر به الكويت من كفاءات وخبرات تشريعية وقانونية، وأن الأمر ليس حلبة مبارزة بين مجلس الأمة والمحكمة الدستورية، فهي شريك أصيل لهذا المجلس في صون الدستور واحترام أحكامه.وفي هذا السياق فقد وقرت المحكمة الدستورية في ضمير الشعب بأحكامها التي صانت مبادئ الديمقراطية، وصانت حرية الرأي وحق التعبير عنه وحق الاجتماع والحرية الشخصية وحق المساواة وحق التقاضي، ورسخت حماية الملكية الخاصة والعامة.
وإن من واجب الجميع، بمن في ذلك نواب الأمة الذين يمثل كل نائب منهم الأمة بأسرها، احترام هذه الأحكام، التي أقرت المبادئ الدستورية فيما تقدم من مسائل عرضت عليها.القوانين الجزائية والضماناتولعل ما أردنا أن ننبه إليه في دراستنا حول المثالب الدستورية لقانون تعارض المصالح في العام الماضي، والذي أقرتنا عليه المحكمة الدستورية في حكمها الصادر يوم الأربعاء الموافق أول هذا الشهر، ونؤكد عليه في هذا المقال، هو أن "القوانين الجزائية يجب أن تكون من الجلاء والوضوح، وأن تنتظم أحكامها درجة اليقين في أعلى مستوياتها، وأن يكون ذلك أظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخرى، وعلة ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين وبالتالي- ضمانا لهذه الحرية- أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، لكن التجهيل بها أو نهيها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها".المحاكم الدستورية والدرب الصعبوالواقع أن مراجعة المحاكم الدستورية لأعمال السلطة التشريعية، وهي سلطة منتخبة من الشعب، قد أقحم المحاكم الدستورية في الدرب الصعب الذي تخشاه أي رقابة قضائية، وهو إقحامها في صراع مع السلطة السياسية.ولئن كان القضاء الدستوري ليس عملا سياسيا بل هو عمل فني قضائي، ولا يخرج ما تباشره المحكمة الدستورية عن طبيعة الأعمال القضائية، إلا أن ذلك لا ينفي أن المحكمة في تفسيرها للنصوص الدستورية، قد لا يسعفها التفسير اللغوي لمفردات النص، فتستجلي قصد المشرع الدستوري دون التقيد بتلك الظروف، ومنها ما يتعرف على الواقع وحاجاته ومقتضياته وذلك حسبما تنبئ عنه التجربة، وفرض ما هو واجب في شأن هذا الواقع، حيث يختلط فن القضاء بالواقع والمستجدات، فيفرض القاضي على هذا الواقع ما يمليه عقله من مُثل عليا وغايات ومرام، وما يستلهمه من مبادئ المجتمع الذي يعيش فيه، بحسب فهمه لهذه المبادئ، وهي أمور نسبية وليست مطلقة.ويرى د. أحمد كمال أبو المجد أن "العمل القضائي الفني للمحكمة لا يمنع من التذكير بأن من طبيعة الرقابة الدستورية على القوانين أن تتناول بالضرورة عدداً من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تكفل نصوص الدستور أنواعا متعددة من هذه الحقوق للفرد والمجتمع والسلطات الدستورية، وهي أمور تتصل أوثق اتصال بقيم المجتمع، بحيث يبدو تعرض القضاء الدستوري لها- في ظاهره- كما لو كان اقتحاما لمجالات سياسية تختص بها السلطة السياسية وحدها ولا ينازعها- في ذلك- القضاء". (من مقال نشر له بصحيفة الأهرام منذ أكثر من عشرين عاماً).ويقول د. عادل عمر الشريف، نائب رئيس المحكمة الدستورية، "ويكشف التاريخ القضائي للمحاكم العليا الأميركية أن الولايات المتحدة الأميركية تعيش في ظل نظام دستوري عريق يسنده إيمان عميق بالقيم الديمقراطية، وبفكرة الحكومة المقيدة". (دكتور عادل عمر شريف- قضاء الدستورية ص135)وكانت الولايات المتحدة الأميركية من أسبق الدول إلى الاعتراف للقاضي بحق الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، في أول سابقة لذلك في ولاية نيوجرسي سنة 1780، قبل إنشاء اتحاد الولايات المتحدة الأميركية سنة 1789 لتصبح مخالفة قانون كل ولاية للدستور الاتحادي من اختصاص المحكمة العليا الاتحادية.وقد أدركت المحاكم الدستورية فى مصر، أن مراجعتها لأعمال السلطة التشريعية، وهي سلطة سياسية منتخبة من الشعب، أن هذه المراجعة سوف تقحمها في الدرب الصعب الذي تخشاه أي رقابة قضائية بحكم أن صراع السلطة القضائية مع أي من السلطتين الأخريين سوف يكون صراعاً غير متكافئ.ومن هنا لم تمتد ولايتها إلى ما يدخل في الملاءمات أو التقدير الذي تمارسه السلطة التشريعية، ولم تمتد ولايتها إلى ملاءمة الوسائل التي سنها التشريع لتنظيم ما نظمه من مسائل أو إلى البواعث التي حملت السلطة التشريعية على إصداره، لأن ذلك كله مما يدخل في صميم اختصاص السلطة التشريعية وتقديرها المطلق.ويظل القضاء الدستوري شامخاًإلا أن القضاء الدستوري يظل شامخاً في أداء واجبه في حل وحسم المنازعات التي قد يخالطها النزعات السياسية، وهو فوق مستوى الشبهات، يؤدي أمانة القضاء دون رهبة أو وجل، فريضة محكمة وسنة متبعة، كما جاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، حتى لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس.
مقالات
المحكمة الدستورية رمانة الميزان
12-05-2019