أدى وليام ج. بيرنز، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الدبلوماسية الأميركية، دوراً محورياً في المراحل الدبلوماسية الأكثر تأثيراً في زمنه: من نهاية الحرب الباردة السلمية إلى انهيار العلاقات بعد الحرب الباردة مع روسيا بقيادة بوتين، ومن اضطرابات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في الشرق الأوسط إلى المحادثات النووية السرية مع إيران.يسرد بيرنز في كتابه The Back Channel (القناة الخلفية) بتفاصيل دقيقة، وتحليل عميق بعض اللحظات المفصلية في مسيرته المهنية، فيستند إلى مجموعة من البرقيات والمذكرات التي رُفعت عنها السرية أخيراً ليقدّم للقارئ صورة داخلية نادرة عن الدبلوماسية الأميركية.
ولا شك أن رسائله من الشيشان التي مزقتها الحرب أو معسكر القذافي الغريب في الصحراء الليبية وتحذيراته من "العاصفة المثالية" التي ستطلقها حرب العراق ستعيد صياغة فهمنا التاريخ، وتنير المناظرات السياسية في المستقبل، كذلك يرسم بيرنز أطر القيادة الأميركية الفاعلة في عالم لا يشبه منافسة الحرب الباردة التي لم يكن فيها رابح أو خاسر خلال سنواته الأولى كدبلوماسي، ولا "لحظة القطب الواحد" مع السيادة الأميركية التي تلت.باختصار، يشكّل كتاب The Back Channel، الذي ستعرض "الجريدة" ملخصاً عنه في 6 حلقات قصة بليغة غنية بالمعلومات جاءت في وقتها، قصة عن حياة كُرّست لخدمة المصالح الأميركية في الخارج، كذلك يمثّل مذكِّراً قوياً بحقبة من الاضطرابات العنيفة بأن الدبلوماسية مازالت بالغة الأهمية. وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية:
ركبتُ في وقت متأخر من إحدى ليالي فبراير 2013 طائرة من طائرات «غلف ستريم» التابعة للحكومة الأميركية لا تحمل أي علامات، كانت مركونة على مدرج مهجور في قاعدة أندروز الجوية، كانت كلمات وزير الخارجية (جون) كيري الوداعية، التي ذكرها بتفاؤله وثقته المعهودين، لا تزال ترن في رأسي: «أمامنا فرصة دبلوماسية لا تتكرر»، لكنني لم أكن واثقاً بقدرته.أمضيت الجزء الأكبر من رحلة السبع عشرة ساعة إلى سلطنة عمان وأنا أراجع كتب تقارير، وأناقش الاستراتيجية والتكتيكات مع فريقنا المفاوض، وأحاول أن أستوعب بالكامل المهمة التي تكمن أمامنا، كانت قد مرت خمس وثلاثون سنة لم تحظَ فيها الولايات المتحدة وإيران باتصال دبلوماسي مستدام، كذلك كان لكل طرف تجارب سيئة مع الآخر، مما عزز عدم الثقة المتبادل بينهما، بالإضافة إلى ذلك، كانت الرهانات الدبلوماسية كبيرة مع تسارع برنامج إيران النووي وتنامي احتمال نشوب صراع عسكري بيننا. بدت أيضاً السياسات في عاصمتينا متفجرة مع تقلص هامش المناورة الدبلوماسية، أما الدبلوماسية الدولية فتعطلت مع افتقار تبادلاتها العشوائية حتى الآن إلى عنصر أساسي: مناقشة مباشرة بين الخصمين الرئيسين الولايات المتحدة وإيران.
الدبلوماسية وحماية المصالح
كما أوضح (الرئيس باراك) أوباما خلال حملته الرئاسية، سعى إلى عهد يحد فيه من حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ويجعل الدبلوماسية الأداة الأولى لحماية المصالح الأميركية.عثر أوباما في هيلاري كلينتون على شريك فاعل في دبلوماسيته بشأن إيران، كانت بطبيعتها أكثر حذراً حيال التحاور مع الإيرانيين وأكثر تشكيكاً في احتمال التوصل يوماً إلى اتفاق يمنع طهران من تطوير قنبلة، لكنها أقرت بأن الحوار المباشر يشكّل الطريقة الفضلى لاختبار جدية الإيرانيين والاستثمار في الوقت عينه في ائتلاف دولي أشمل يُعتبر ضرورياً لزيادة الضغط على إيران في حال أخفقت تلك الاختبارات الأولى.بعد ثلاثة أيام على إدلائها القسم وتسلمها منصب وزير الخارجية، بعثتُ بمذكرة إلى كلينتون عنونتها «استراتيجية جديدة بشأن إيران». بدأت بمحاولة تلخيص هدفنا الرئيس:بما أن إيران لاعب إقليمي مهم، يجب أن يكون هدفنا الرئيس السعي إلى التوصل إلى أسس طويلة الأمد للتعايش مع النفوذ الإيراني مع الحد في الوقت عينه من التعديات الإيرانية بهدف تغيير سلوك إيران لا نظامها. ويعني هذا من بين أمور كثيرة منع إيران من اكتساب القدرة على تطوير أسلحة نووية، توجيه سلوكها كي لا تهدد مصالحنا الأساسية التي تقوم على بناء دولة عراقية مستقرة وموحدة ودولة أفغانية لا تشكّل منصة لتصدير التطرف العنيف، والحد تدريجياً من قدرة إيران على تهديدنا وتهديد أصدقائنا من خلال دعم مجموعات إرهابية. كذلك يجب أن نندد دوماً بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران.قدّمتُ حججاً تدعم تبني مقاربة شاملة، وعلى غرار ما اتبعناه مع الصين في مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدا منطقياً أن نطبق تكتيكات حذرة تصاعدية في البداية، إنما يجب أن تشكّل جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد. ذكرتُ: «يجب أن نرسي من البداية مقداراً من الاحترام والالتزام بغية توجيه التحاور، بغض النظر عن مدى حدة اختلافاتنا». وتابعتُ محدِّداً ما بدا جلياً: «يتطلب التعاطي مع إيران مقداراً كبيراً من الصبر، والإصرار، والمثابرة. فبما أن النخبة الإيرانية تؤمن بعمق بنظريات المؤامرة، ترتاب دوماً بدوافع الولايات المتحدة، وتضم عدداً كبيراً من الفصائل التواقة خصوصاً إلى تقويض أحدها الآخر خلال مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية الإيرانية في شهر يونيو، ستكون أكثر ميلاً إلى الخداع والبدايات الكاذبة»، يجب ألا نقلل من أهمية واقع أن عداوة الولايات المتحدة مثلت بالنسبة إلى القائد الأعلى والرجال المتشددين المحيطين به أحد مبادئ النظام الأساسية. لكني أضفتُ: «ينبغي أن نتعاطى مع النظام الإيراني كلاعب موحّد، مدركين أن القائد الأعلى (لا الرئيس) السلطة العليا. فقد أخفقنا باستمرار في الماضي عندما حاولنا تأليب فصيل على آخر».سوء إدارة
شددتُ أيضاً على ضرورة ألا ننسى نقاط ضعف إيران، وكتبتُ: «إيران خصم مذهل... إلا أنها ليست عملاقاً. يعاني اقتصادها سوء إدارة فادحاً مع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، فضلاً عن أنها سريعة التأثر بانخفاض أسعار النفط الحاد المتواصل واعتمادها على منتجات النفط المكررة. كذلك لا تملك إيران أصدقاء حقيقيين في الجوار، لا يثق بها العرب والأتراك في المنطقة، ويتعاطى معها الروس بتعالٍ والأفغان بريبة». أخيراً، شددتُ: «يجب أن نتنبه دوماً خلال تعاملنا مع إيران لمخاوف أصدقائنا، فضلاً عن فئات الشعب الرئيسة في بلدانهم». حذّرتُ من أن شركاءنا العرب السنة سيخشون أن نتخلى عنهم في سبيل علاقة ود فارسية جديدة. كذلك سيشعر الإسرائيليون بالقلق على أقل تقدير نظراً إلى الخطر الواضح الذي يواجهونه من المجموعات التابعة لإيران وبرنامجَيها النووي والصاروخي، كذلك سنصطدم بصعوبة كبيرة في التعاطي مع الكونغرس ونفوره العام من التعاطي بجدية مع إيران، وأكّدت أيضاً: «علينا أن نحرص على تحدث الإدارة بصوت واحد وتفادي الانقسامات التي شابت الإدارة السابقة».اقتنعت كلينتون بطرحي هذا وخصصت المهارات والوسائل الضرورية لإنجاز هذه المهمة، وبدا أوباما أيضاً تواقاً للبدء، وعقد سلسلة من الاجتماعات في مطلع عام 2009 بغية التوصل إلى استراتيجية واسعة قريبة من تلك التي عرضتُها على وزيرة الخارجية، فقد ورث أوباما وضعاً معقداً في المسألة الإيرانية، وعندما أخبر الإيرانيين في خطابِ تسلُّمه منصبه في 20 يناير: «سنمد يداً إن كنتم مستعدين لفتح قبضتكم»، كانت طهران قد كدّست ما يكفي من اليورانيوم المنخفض التخصيب لتطوير سلاح نووي، كذلك كانت أنظمتها الصاروخية قد حققت تقدماً كبيراً، صحيح أننا لم نملك أدلة تثبت إعادة إحياء إيران جهودها الباكرة لتطوير أسلحة نووية، لكننا لم نستطع أيضاً الجزم في هذا المجال.في مارس، بعث الرئيس برسالة تهنئة مصوّرة بمناسبة عيد النوروز إلى الشعب الإيراني، وفي إشارة ضمنية إلى أنه لا يرغب في تغيير النظام بالقوة، سمّى الحكومة باسمها الرسمي: الجمهورية الإسلامية.استعداد للتحاور
في مطلع مايو، بعث الرئيس برسالة طويلة سرية إلى آية الله خامنئي، وكان صريحاً بشأن تصميمه الراسخ على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية ودعمه موقف مجموعة 5+1 الداعي إلى أن إيران تملك الحق ببرنامج نووي مدني سلمي، وردّ القائد الأعلى بعد بضعة أسابيع، صحيح أنه لم يقدّم أي ردّ صريح على عرض الرئيس خوض حوار مباشر، لكننا فهمنا خطوته هذه على أنها إشارة جدية إلى استعداده للتحاور. فجاء رد أوباما سريعاً في رسالة قصيرة اقترح فيها إقامة قناة محادثات سرية واختارني أنا وبونيت تالوار، موظف بارز في مجلس الأمن القومي، لنكون مبعوثَيه.لكن كل هذا الزخم المتقلقل، الذي بدا مشجِّعاً إلى حد ما نظراً إلى الاضطرابات المعهودة في تعاطينا مع إيران، توقف فجأة حين تحوّلت الانتخابات الرئاسية الإيرانية في شهر يونيو إلى حمام دم. قاد تلاعب النظام بصناديق الاقتراع وقمع الحركة الخضراء المعارِضة الفاعلة على نحو مفاجئ إلى أعمال عنف في الشارع وثّقها مواطنون إيرانيون يحملون هواتف خليوية وبُثت حول العالم بطريقة مأساوية واسعة. قمعت الحكومة الشعب بوحشيتها المعهودة: ضربت الميليشيات شبه العسكرية المتظاهرين، واعتُقل الآلاف، وقُتل العشرات، فجاء رد فعل البيت الأبيض خجولاً في البداية، لكن هذا الخجل لم يرتبط بالخوف من تقويض جهود المحادثات الناشئة بقدر ارتباطه بالامتناع عن خنق رسالة قادة الحركة الخضراء بالدعم الأميركي والسماح للنظام بتصويرهم كدمى بيد الولايات المتحدة. ولكن عندما نتأمل تلك الأحداث اليوم، ندرك أنه كان علينا أن نتجاهل تلك الاعتبارات وأن نكون أكثر حدة في انتقادنا العلني منذ البداية. لا يُعتبر هذا الانتقاد، الذي بلغ الحدة المطلوبة في النهاية، الخطوة المناسبة فحسب، بل شكّل أيضاً مذكّراً مفيداً للنظام الإيراني بأننا لسنا تواقين إلى بدء المحادثات النووية إلى درجة نغض معها النظر عن أنماط السلوك المهدِّدة، سواء كانت موجهة نحو المواطنين الإيرانيين أو أصدقائنا في المنطقة.التصميم على منع إيران من تطوير قنبلة وتحميلها مسؤولية التزاماتها الدولية
في التاسع عشر من يوليو 2008 في جنيف، وسط اهتمام كبير من وسائل الإعلام، كسرتُ أحد المحظورات بشأن المشاركة الأميركية المباشرة في المحادثات النووية، وانضممت إلى زملائي في مجموعة 5+1 حول طاولة بيضاوية في صالة اجتماعات مكتظة في هذه المدينة القديمة، ذكّرتني وزيرة الخارجية وستيف هادلي بألا أرسم أي تعابير على وجهي وأن أبدو عابساً بالقدر الملائم فيما راحت الكاميرات تصور افتتاح الجلسة الأولى.كذلك اقترحا عليّ أن أظل ساكتاً طوال المحادثات وأن أتأمل فحسب رد الإيرانيين على (المنسق السابق للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير) سولانا، وبدت لي النقطة الأولى منطقية، أما الثانية فلا، فإذا كان الهدف من الانضمام إلى المحادثات التشديد على جديتنا وإظهار إيران بمظهر الولد الدبلوماسي المشاغب، فقد يؤدي السكوت إلى نتائج عكسية. نظرتُ عبر الطاولة مباشرةً إلى سعيد جليلي وتفوهت بعبارة بسيطة قائلاً: إنني آمل أن يفهم الإيرانيون أهمية الإشارة التي نرسلها من خلال الانضمام إلى المحادثات: عرفنا المخاطر المترتبة على المسألة النووية، وكنا مصممين على منع إيران من تطوير قنبلة وعلى تحميلها مسؤولية التزاماتها الدولية، ودعمنا بالكامل اقتراح مجموعة 5+1. كذلك شددت على أن أمام إيران فرصة نادرة نرجو أن تستغلها.دوّن جليلي ملاحظات دقيقة وابتسم قليلاً طوال كلامي، ورمقني هو وزملاؤه بالكثير من النظرات الجانبية، وخصوصاً أنهم شعروا أن الوجود الأميركي يوترهم، وانطلق جليلي بعد ذلك في كلمة دامت أربعين دقيقة تقريباً قدّم فيها فلسفة متقلبة عن ثقافة إيران وتاريخها وعن الدور البناء الذي أدته في المنطقة. بدا لي غامضاً على نحو غريب عندما أراد تفادي تقديم أجوبة مباشرة، وكانت هذه بالتأكيد إحدى تلك المناسبات، وذكر جليلي في مرحلة ما أنه ما زال محاضراً بدوام جزئي في جامعة طهران، فلم أحسد طلابه.ختم جليلي تعليقاته بتوزيع «ورقة غير رسمية» إيرانية، وحملت النسخة الإنكليزية خطأً العنوان «ورقة غير رسمية»، وتبيّن أن هذا وصف دقيق لمحتواها. تصفحها سولانا وسائر المشاركين معه بسرعة. وفي هذه اللحظة، تأفف زميلي الفرنسي بحذر وهمس «سخافة!»، مما رسم علامات الصدمة على وجه جليلي وبدد ملامح الجدية عن وجهي، ولكن من حسن حظي أن الكاميرات كانت قد أُطفئت منذ مدة.في ملاحظة سريعة وجهتُها إلى وزيرة الخارجية رايس في تلك الأمسية، ذكرت أن «خمس ساعات ونصف الساعة التي أمضيتها مع الإيرانيين اليوم شكّلت مذكراً قوياً بأننا لم نفوّت الكثير على الأرجح طوال هذه السنوات». رغم ذلك، بدا زملاؤنا في مجموعة 5+1 مسرورين بأن للولايات المتحدة اليوم حضوراً واضحاً وبأنها تشارك بفاعلية. وقد أعرب الروس والصينيون خصوصاً عن تقديرهم، فبغض النظر عن رد فعل الإيرانيين المخيب للآمال، استعدنا الآن مكانتنا الأعلى.لم يؤدِّ الانضمام إلى لقاء جنيف ولا مبادرة تمثيل المصالح إلى تقدّم ملموس لأن عهد (جورج) بوش الابن شارف على نهايته. انضممتُ إلى رايس في اجتماع سريع مع سيرغي لافروف في برلين في أواخر يوليو، وعرضت فكرة تمثيل المصالح، فوافق لافروف بطيب خاطر على نقل روسيا هذا الطرح إلى مستشار القائد الأعلى في مجال السياسة الخارجية علي أكبر ولايتي، ولكن اندلعت بعد ذلك الحرب في جورجيا وما عاد الروس يرغبون في تأدية دور الرسول، كذلك ما عدنا نحن نهتم لأمر الروس ولم تذهب هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك. لكننا مهدنا الدرب أمام مقاربة باراك أوباما الأكثر نشاطاً وابتكاراً إلى المعضلة النووية الإيرانية. موقعا «ناتنز» و«آراك» النوويان السريان تحت أعين المجتمع الاستخباراتي الأميركي
خضعتُ لامتحان الدخول إلى الخدمات الخارجية في نوفمبر 1979 بعد بضعة أيام من الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران وبدء أزمة الرهائن التي أسقطت رئيساً، حيث فجّر إرهابيون مدعومون من إيران مرتين السفارة الأميركية في بيروت وقتلوا أكثر من مئتَي جندي في مشاة البحرية الأميركية في هجوم آخر هناك. كذلك كادت فضيحة إيران-كونترا أن تطيح برئيس آخر.دفع النجاح الكبير الذي حققته عملية عاصفة الصحراء في 1991 النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط إلى ذروته. صحيح أن إدارة كلينتون عملت جاهدة لاحتواء إيران، إلا أنها درست أيضاً في أواخر تسعينيات القرن الماضي احتمال التوصل إلى انفتاح مع حكومة (الرئيس الإيراني الأسبق محمد) خاتمي، لكنها لم تحقق تقدماً يُذكر. أتاح مشهد ما بعد الحادي عشر من سبتمبر فرصة مماثلة، بيد أنها لم تُستغل، بل منحت عملية الإطاحة بألد أعداء إيران التاريخيين، التي قادتها الولايات المتحدة في كابول وبغداد وما نجم عنها من فوضى، فرصة استراتيجية لم تتردد إيران مطلقاً في اقتناصها. في أواخر 2001، بدأ المجتمع الاستخباراتي الأميركي يتتبع موقعين نوويين سريين في إيران: محطة لتخصيب اليورانيوم في ناتنز ومنشأة في آراك قد تنتج في النهاية مادة بلوتونيوم من الممكن استعمالها في تطوير أسلحة. بُنيت هذه الجهود، التي لم تصرّح بها إيران للوكالة الدولية للطاقة الذرية، على برنامج إيراني علني للطاقة النووية أنشئ خلال عهد الشاه، والمفارقة أن الولايات المتحدة كانت داعمه الأول.أدى الكشف عن هذين الموقعين السريين في صيف 2002 إلى مناورة دبلوماسية استمرت سنوات، حتى مرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارات طالب فيها إيران بتعليق أعمال التخصيب. لكن إيران مضت قدماً في عملها هذا بعناد، ونظراً لعدم استعداد إدارة بوش للتحاور مباشرة مع إيران، بدأ حلفاؤنا الأوروبيون مفاوضات مع الإيرانيين لم تحقق أي تقدّم يُذكر، بما أن إيران سعت إلى الحفاظ على برنامجها للتخصيب واحتمال تطويرها أسلحة نووية على الأمد الطويل وتفادي العقوبات الاقتصادية، انضمت روسيا والصين لاحقاً إلى دول الاتحاد الأوروبي الثلاث، وهكذا صارت هذه المجموعة تُعرف بمجموعة 5+1 (الدول الأعضاء الخمس الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فضلاً عن ألمانيا).صحيح أن هذا أغنى سوق المصطلحات الدبلوماسية الدولية المختصرة، لكنه لم يُحدث أي تبدّل في سلوك إيران، وبحلول السنة الأخيرة من عهد بوش عام 2008، كان الإيرانيون، رغم القلق الدولي المتنامي ورغم مواجهتهم جولات عدة من العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، نجحوا في تكديس نحو نصف الكمية اللازمة من اليورانيوم المنخفص التخصيب لمواصلة عملية التخصيب وإنتاج قنبلة واحدة. كانوا يشغّلون أكثر من أربعة آلاف جهاز طرد مركزي بدائي من نوع IR-1 في ناتنز ويحققون تقدماً متأرجحاً نحو نماذج أكثر تطوراً.وفي حين كانت إدارة بوش تتخبط وسط الأضرار الناجمة عن حرب العراق، بدأ عدد من كبار مسؤوليها يدركون أن إصرارها العنيد على عدم المشاركة مباشرةً في دبلوماسية مجموعة 5+1 مع إيران يؤدي إلى نتائج عكسية.في أواخر مايو 2008 بعثتُ إلى وزيرة الخارجية (السابقة كوندوليسا) رايس بمذكرة طويلة عنونتها «استعادة المبادرة الاستراتيجية بشأن إيران»، استهللتها بالتأكيد بأن «سياستنا تجاه إيران تنجرف بخطورة بين دبلوماسية مجموعة 5+1 العشوائية الراهنة وخيارات أكثر قوة مع كل ما يرافقها من تداعيات سلبية مهولة». كان عدم استعدادنا للتحاور مباشرةً مع طهران يكبدنا كلفة تفوق ما يواجهه الإيرانيون أنفسهم، فضلاً عن أنه حرمنا من نفوذ قيّم.