لم يعد يفصلنا عن الانتخابات الأوروبية، التي لم تنوِ تيريزا ماي المشاركة فيها مطلقاً، سوى أسبوعين تقريباً، ولا شك أن الأحزاب السياسية كافةً ستخوضها كمنافسة بالوكالة بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فتُفسَّر النتيجة على أنها أيضاً حُكم بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تماماً كما كانت الانتخابات المحلية الإنكليزية قبل أيام، وستُخاض على الأرجح بالطريقة المتهورة ذاتها.لكننا نبالغ إذا ادعينا أن الانتخابات الأوروبية في المملكة المتحدة تركّز لمرة في تاريخنا المعاصر على مكانة بريطانيا وأوروبا في عالم القرن الحادي والعشرين. الحقيقة أقل بريقاً، إذ تُعتبر هذه الانتخابات حلقة أخرى من الصدمة الوطنية، وخصوصاً المحافظة، بسبب تراجع القوة البريطانية التاريخي، الذي شكّل فيه الاستفتاء ذروة مؤقتة، لذلك من غير المرجح أن تكون هذه الانتخابات شافية أو مطهرة. على العكس، ستغرقنا أكثر في دراما نفسية متواصلة عززها التصويت عام 2016.
لا يمكننا التهرب من جدال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على العكس، ينبغي للأحزاب والقادة خوضه، ولكن كلما طال هذا الجدال ازداد البلد ابتعاداً عن أي محاولة للتوصل إلى حكم واعٍ يركّز على المستقبل بشأن الوقائع التي تصوغ وجوده المعاصر. إذاً، يبدو الجدال بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شرساً، حتى إننا نواجه خطر الإخفاق في رؤية الضرر الذي تلحقه بريطانيا بنفسها بوضوح كافٍ، بغض النظر عن النتيجة القصيرة الأمد للمعارك التي تستحوذ اليوم على الأحزاب وناشطيها.لا يستطيع أي أحد كان على اتصال خلال السنوات الثلاث الماضية بدبلوماسي بريطاني أو أجنبي أن يخالف هذه الحقيقة، بغض النظر عما إذا كان قرار عام 2016 صائباً أو خاطئاً، تبقى هذه مسألة تجعل سائر دول العالم تتعامل مع بريطانيا بأقل جدية، لكن أسباب هذه النظرة لا تقتصر على قرار عام 2016، بل تشمل أيضاً طريقة تفاعل بريطانيا معه، وهذه العملية تسير نحو الأسوأ لا الأفضل، فضلاً عن أنها ستزداد سوءاً مرة أخرى بسبب كل الخطوات المحتملة التالية في أزمة المملكة المتحدة (صفقة مركّبة أقل تشدداً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتفق عليها المحافظون وحزب العمال أو محاولة جديدة للإطاحة بماي).لن تختفي هذه المشاكل عندما نصل أخيراً إلى مرحلة "ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي"، هذا إن بلغنا هذه المرحلة. لا عجب أننا لم نشهد خلال الأشهر القليلة الماضية الكثير من التحليل الناقد للمعنى العملي (هذا إن كان موجوداً) لمفهوم "بريطانيا العالمية" الذي يعشقه المحافظون. لكننا نلاحظ فراغاً مماثلاً في مسألة خوض حوار منطقي بشأن أي من البدائل، بما فيها سياسة جيرمي كوربين الخارجية في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.نتيجة لذلك، عندما تنشأ مسألة مثل تعليق إيران أجزاء من صفقتها النووية أو عندما تبلغ قضية مثل دور شركة "هواوي" المستقبلي في البنية الوطنية البريطانية نقطة الغليان، يتضح أن ردود فعل بريطانيا تأتي تلقائياً من دون دراسة أو تفكير، ففي الشأن الإيراني، ما زالت بريطانيا عالقة في حلقة من الضياع متأرجحةً بين ردود فعل حلفائها الأوروبيين والأميركيين المتضاربة، أما في مسألة "هواوي"، فهي عالقة بين تعاملها المتزايد مع الصين ورغبتها القديمة في خوض الحرب الباردة مجدداً.لا تعرب بريطانيا في كلتا الحالتين عن رد فعل يستند إلى تقييم مدروس لقوتها، ومصالحها، وقيمها الخاصة في القرن الحادي والعشرين، وبدلاً من ذلك تلجأ غالباً إلى خليط من عادات ما بعد الحرب والفراغ الفكري، ونتيجة لذلك يتبين أن هذا البلد يفتقر إلى التجهيزات الضرورية ليدرك أين تقع مصالحه الفضلى.الشهر الماضي، نشر نائب مدير المعهد الملكي للخدمات المتحدة مالكوم تشالمرز من قلب مؤسسة الحكومة نقداً قاسياً ومثيراً للاهتمام لأحد أوجه هذا الوضع: ادعاء الحكومة الحالية أن بريطانيا ملتزمة بما تدعوه "النظام الدولي القائم على قواعد". تظهر هذه العبارة مراراً في خطابات ماي ووزرائها: 27 مرة في المراجعة الأمنية والدفاعية الاستراتيجية وحدها، وعلى نحو مماثل، وردت في خطاب ألقاه جيرمي هانت أخيراً في ستة أطر مختلفة تماماً.رغم ذلك، يشير تشالمرز إلى أنه ما من نظام دولي واحد قائم على قواعد، بل هنالك ما لا يقل عن ثلاثة أنظمة مختلفة متداخلة وغير مكتملة تشمل الروابط الاقتصادية، والعلاقات الدولية، والمبادئ الديمقراطية الليبرالية في صيغ عالمية مختلفة. تستند هذه الأنظمة كلها إلى صفقات نفوذ بقدر استنادها إلى قواعد، حتى إننا نشهد أحياناً منافسة بينها، كما هي الحال مع مسألتَي إيران و"هواوي" كلتيهما، وتتبنى الصين، القوة المهيمنة على القرن الجديد، بعض هذه الأنظمة لا كلها، مضيفةً إليها بعضاً من أنظمتها، أما الولايات المتحدة في عهد ترامب، فتعارض هذه الأنظمة. إذاً، لا يشكّل النظام الدولي القائم على قواعد وسيلة توجيه للعمل لدولة بريطانية "عالمية" في المستقبل، بل يتطلب هذا تقييماً أكثر وعياً وتعقلاً لمصالح بريطانيا، وقيمها، ومواردها.لكن هذا حوار عملي ترفض بريطانيا منذ زمن خوضه وتخفق في ذلك، ويعود هذا الواقع في جزء منه إلى الصدمة التي سيسببها لأن هذا الحوار، إن خضناه، سيقود دوماً إلى بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وهذا مكان قررنا بشكل واهم، ومأساوي، ومدمر ألا نقصده.* مارتن كيتل* «الغارديان»
مقالات
«بريطانيا العالمية» تحدد سياستها الخارجية بدون تفكير
15-05-2019