ظهرت سلسلة من التقارير الصادمة السنة الماضية في صحيفة نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام، كاشفةً عن شبكة من معسكرات الاعتقال التي أقامتها الحكومة الصينية في منطقة سنجان غرب البلاد بهدف معاقبة الأويغور وغيرهم من الأقليات المسلمة و»إعادة تثقيفهم». تذكر هذه التقارير أن أكثر من مليون مسلم أُرسلوا إلى هذه المعسكرات خلال حملة «الضرب بشدة»، وهو مشروع غايته تعزيز «الاستقرار» في المنطقة، وشمل الضحايا أولاد نزلاء المعسكرات، الذين أُرسلوا بأعداد كبيرة إلى دور الأيتام، والمدارس الداخلية، ودور الرعاية في حين كان ذووهم يقضون فترات اعتقالهم غير المحددة.
ردت قيادة الحزب الشيوعي بادئ الأمر على هذه التقارير بإنكار هذه المعسكرات تماماً، ولكن عندما جوبهت بصور الأقمار الاصطناعية وعدد من الشهادات الشخصية المفصلة من نزلاء سابقين، بدّل النظام بسرعة موقفه. ولم يكتفِ مسؤولو الحكومة بالاعتراف بوجود المعسكرات، بل قدموها أيضاً كجزء من مشروع للتدريب المهني ومحاربة الأصولية هدفه مكافحة التطرف وتعزيز التناغم بين الإثنيات، وهذه هي الرسالة التي يطرحها اليوم الحزب في المنتديات العالمية عندما تُثار مسألة اضطهاد الأويغور، كذلك تُقدَّم هذه الرسالة إلى الصحافيين الأجانب أثناء قيامهم بجولات في المعسكرات.
رواية مأساوية تُسرد مجدداً
يتبع النظام الصيني، في الجهود التي يبذلها في مجال العلاقات العامة بغية إعادة تعريف معسكرات الاعتقال الجماعية هذه كمراكز تدريب على التعاطي المدني، نمطاً محدداً بدقة في كتب قواعد الأنظمة المستبدة الأكثر خبثاً في التاريخ. على سبيل المثال، بعدما ندد الكرملين في عهد ستالين بالتقارير عن معسكرات العمل الإلزامي، معتبراً إياها إهانة، أوضح أن نظام المعسكرات هذا يسعى إلى تغيير مَن يملكون وجهات نظر سياسية منحرفة ليصبحوا مواطنين سوفياتيين ملتزمين عقائدياً. كذلك صوّر النازيون معسكرات اعتقالهم كمراكز تأهيل للمسيئين الأحداث، حتى إنه أعدّ فيلماً دعائياً شهيراً عن معسكر تريزنشتات ظهر فيه نزلاء سعداء يلعبون كرة القدم، ويتعلمون النجارة، ويعتنون بالحدائق، وعلى نحو مماثل تُظهر الدعاية المتلفزة الصينية «شبان» الأويغور وهم يشاركون في «تدريب مهني» ويتعلمون اللغة المندرينية، وتؤكد الرواية الرسمية أن المعسكرات ليست سجوناً بل مراكز للتنمية المهنية والتعليم حيث يتحول الأويغور إلى مواطنين صينيين منتجين.تشمل أوجه الشبه الأخرى بين الصين في عهد شي جين بينغ والاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين حملة إلغاء الطبقة المثقفة بين الأويغور. استخدم المؤرخ روبرت كونكويست عبارة «مفكك الأمم» ليصف الحاكم المستبد السوفياتي الذي سعى بدأب إلى تصفية القيادة الفكرية والسياسية لشعوب البلطيق، وتتار القرم، وغيرهم من الأقليات السوفياتية غير الملائمة. فقُتل كثيرون من هذه النخب، في حين أُرسل آخرون إلى غولاغ سيبريا الذي لم يعد منه سوى القلائل، كذلك انتزع ستالين مجموعات كاملة من مواطن أجدادها ونقلها إلى مناطق تجهلها تماماً. وتعرض آخرون لعملية «ترويس» مركّزة بغية قمع لغتهم وثقافتهم.يواجه الأويغور اليوم حملة مشابهة تماثلها من حيث النطاق وإن جاءت أقل وحشية، تستهدف هذه الحملة شخصيات ثقافية وأكاديمية، ولعل الضربة الأكثر حدة التي تعرض لها الأويغور توقيف عام 2014 إلهام توهتي، خبير اقتصادي متميز منهم وأحد المروجين للتفاهم بين الإثنيات، وبعد محاكمة دامت سنيتن، أُدين توهتي بأنه «انفصالي» وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، علماً أن هذه العقوبة قاسية وغير اعتيادية لسجين ضمير.تكثفت الحملة لإسكات مثقفي الأويغور وفنانيهم مع إطلاق معسكرات إعادة التثقيف، إذ يشير أحد التقارير الصادرة عن مشروع الأويغور لحقوق الإنسان إلى أن ما لا يقل عن 386 شخصية فكرية أو ثقافية من الأويغور احتجزوا، أو سُجنوا، أو اختفوا. ويشمل هؤلاء أساتذة ومحاضرين جامعيين، وصحافيين، وشعراء، وفنانين من السينما والمسرح، وأطباء، وباحثين طبيين. فمن بين المحتجزين 21 باحثاً من جامعة سنجان.الاختلاف مرض
يعود هوس بكين بالتحكم في ثقافة الأويغور إلى عقود عدة مضت، وتمحور بادئ الأمر حول الحد من الممارسات الدينية، وتشجيع الهجرة الداخلية للهان الصينيين، ومكافأة الأويغور الذين يبرهنون عن ولائهم للنظام.ولكن كما هو متوقع، أدت هذه السياسات إلى نتائج عكسية، فعانت الصين موجات من العنف بين الأويغور والهان الصينيين، فضلاً عن أعمال إرهابية عدة، مع أنها ظلت على مستوى أدنى بكثير من إراقة الدماء والفوضى التي شهدناها في الشرق الأوسط أو حتى في بعض الدول الأوروبية.وأشرف شي جين بينغ على عملية تشديد للسياسات المتبعة، مركزاً على الانتشار الأمني المكثف، والمراقبة الإلكترونية والفعلية الشاملة، وما قد يُدعى العقاب الاستباقي. حتى إن أحد المسؤولين الكبار تحدث عن الحاجة إلى تحقيق «تغطية شعبية كاملة» و»دخول [مجتمع سنجان] وتطويقه بالكامل كي لا تُترك فيه أي مساحة فارغة»، كذلك تبدلت استراتيجية التلقين من مسعى لاستمالة الأويغور من خلال جلسات وجهاً لوجه إلى مقاربة شاملة دُعيت «التحوّل المركّز»، أو بكلمات أخرى، معسكرات إعادة التثقيف.من البداية، تعاطى صانعو السياسات الصينيون علانية مع معتقدات الأويغور الدينية والثقافية كانعكاس لخرافات، وجهل، وتخلف، بالإضافة إلى ذلك اعتبر المسؤولون المحليون غالباً الالتزام بتقاليد المسلمين تطرفاً وخطراً يصفونه باستخدام استعارات طبية مثل «ورم خبيث» أو «وباء معدٍ». وتستمر مقارنة المعتقدات الدينية بالمرض عند طرح العلاج المقترح. يحتاج مَن يعاني مرضاً خطيراً إلى دخول المستشفى، وبما أن من الصعب توقع خطورة المرض، فلا تُحدَّد فترة الإقامة في المستشفى أو الاعتقال، ومرة أخرى يلوح إرث القرن العشرين التوتاليتاري، بما فيه احتجاز المنشقين السوفيات في مصحات نفسية، بوضوح في الأفق.لإنجاز هذه المهمة الضخمة، وُظِّف كامل جهاز الحزب الشيوعي الصيني،إذ يُكافأ المسؤولون المحليون أو يُعاقبون بالاستناد إلى استيفائهم حصصهم من نزلاء المعسكرات، ولكن لا دخل للمعايير المعتمدة بالتطرف الديني الفعلي، حيث يُختار المرشحون لإعادة التثقيف بالاستناد إلى سلوكهم الذي يُعتبر في معظم المجتمعات طبيعياً بالنسبة إلى مسلم ملتزم: الصلاة في المسجد، والامتناع عن شرب الكحول، والصوم طوال شهر رمضان، وإطالة اللحى. فمن الضروري دفع مَن يختلفون بمظهرهم أو أعمالهم عن الغالبية الإثنية ويعربون عن معتقدات خاصة مميزة إلى التطابق مع المجموعة.مسيرة تقدّم؟
يصف قادة الحزب الشيوعي مشروع تحويل الأويغور بـ«إعادة هندسة إثنية وعملية بناء أمة حازمة». لكن الوصف الأكثر دقة يبقى الإبادة الفكرية. يذكر بعض الأويغور أن حملة الاضطهاد الحالية أشد سوءاً من الثورة الثقافية بين عامَي 1966 و1976 بسبب دور المراقبة الجماعية العصرية في ضبط حركة الفرد، وسلوكه، ومحادثاته. حتى خلال تجربة ماو تسي تونغ الاجتماعية البغيضة تلك، سمح مقدار صغير من المساحة الخاصة باستمرار خصائص يتفرد بها مجتمع الأويغور. لكن التكنولوجيا المتطورة تتيح اليوم للقيادة الصينية بإنشاء معتقل إثني من الأنظمة الصارمة والخوف يفوق أحلام ماو تسي تونغ الأكثر جموحاً. *آرتش بودينغتون*