حيرة ميناء الفجيرة!
استهداف ميناء الفجيرة وضرب عدد مختار من السفن الخليجية فيه قد يكون عملية نوعية دقيقة ومدبرة بعناية فائقة، ولكنها في الوقت نفسه مسرحية فاشلة من حيث التوقيت والإخراج، الأمر الذي يرجح أن تكون الجهة المنفذة لها هي المستفيد الأول والأخير من إشعال نار الحرب بين ضفتي الخليج.فمن جهة جاءت العملية محكمة وغامضة ولم تترك بصمات فاعلها، وفي بعدها التقني تم تخريب مجموعة من الناقلات، ومنها الإماراتية والسعودية، دون أي إصابات بشرية أو أضرار مادية كبيرة، كما لم يتم تسريب نقطة من النفط، ولم يُصب خط تمديد الطاقة بأي خلل، كما لم يرتفع سعر البترول الخام دولاراً واحداً.ومن جهة أخرى، كانت ردود الفعل سياسياً وأمنياً خافتة ولم تساهم في أي تصعيد أو توجيه أصابع الاتهام المباشرة لأي طرف، بل كانت بمثابة موس صغير ابتلعه الجميع بإرادة مسبقة.
بطبيعة الحال، لا يعني أن منطقة الخليج قد تجاوزت مرحلة الخطر والتهديد، فما زالت غيوم التوتر تتكشف حول الإقليم، ولا تزال احتمالات العمليات العسكرية قائمة ولو لأسباب عرضية أو حوادث جانبية متعمدة أو غير مقصودة، وما زالت إدارة الرئيس الأميركي تستمرئ سحب أموال الخليج تحت مبرر الخطر الإيراني وبشكل تصاعدي ومنظم.التحليلات التي واكبت ضربة الفجيرة المحدودة تناولت جوانب كثيرة من الحالة السياسية والأمنية في المنطقة وبمختلف السيناريوهات، لكن الجميع أخفق في تشخيص المعتدي، الأمر الذي يدعو للحيرة خاصة أمام صمت أميركا بكل إمكاناتها الاستخبارية والمعلوماتية، بل في وجودها المباشر في الميدان.ما قد يكون الأهم بعد هذه الحادثة، وفي الرسائل التي قد يستفاد منها من هذه الضربة المحدودة، هو البحث عن مخارج حقيقية لإبعاد شبح الحرب عن الخليج، فالمنطقة لا تتحمل إطلاقاً أي تصعيد، وأياً كانت نتائج أي مواجهات عسكرية سواءً على إيران أو دول مجلس التعاون، فإن المنطقة ستعود للوراء نحو نصف قرن من الزمن، كتكلفة اقتصادية وبشرية ولوجستية، في وقت تخطط دول الخليج الست لمرحلة نصف قرن إلى الأمام.الأموال التي تنهبها إدارة ترامب، الشعوب الخليجية وأجيالها القادمة أولى بها، وهي ثمرة عقود من الاستثمار في النفط الذي بدأ يفقد بريقه وأهميته للولايات المتحدة تحديداً، والتي أصبحت في طليعة المنتجين والمصدرين للنفط الخام حتى عام 2050، ولن تكون الشريك الشريف في أي صفقات لا في الحرب ولا السلام في هذه المنطقة.قد تكون الورقة الروسية-الصينية-الأوروبية هي الأرجح في هذه الفترة، فهم الشركاء الاستراتيجيون الحقيقيون لمنطقة الخليج بضفتيه الفارسية والعربية، وهذه الأطراف الثلاثة تربطها بدول الخليج وإيران علاقات أكثر توازناً وقائمة على منافع مشتركة وواعدة، ولذلك فإن مشروع بناء الثقة وجسور الحوار وطرح مفاهيم الأمن الإقليمي والدولي للخليج قد يكون أكثر عقلانية ومصداقية من التفرد الأميركي الذي لم يعد مهتماً إلا بإنجاح حملة ترامب الانتخابية الجديدة وتمرير صفقة القرن المرفوضة من الجميع باستثناء واشنطن وتل أبيب!