يختلف شهر رمضان في منظور العبادات الإسلامية عن باقي شهور العام. وهذا الاختلاف هو ما يعطي هذا الشهر خصوصيته وتفرده. رمضان شهر: الصوم، والقرآن، وليلة القدر، والبركة، والفضل، وصلاة التراويح والقيام، وصلة القربى، وأخيراً الشهر الذي يفرح المسلمون بأنهم أتمّوا صيامه وقيامه، ومنَّ الله عليهم بعيدِ من أعياد الإسلام، ألا وهو عيد الفطر.رمضان، بقدر ما هو شهر كباقي الشهور، فهو شهر عبادة. شهر يتقرّب به الإنسان المسلم من الله، لينقّي روحه من كل ما علق بها من أدران، مثلما يصوم كي ينقّي جسده من كل ما مسّه من سموم. وهذا الاقتران الأساسي بين صوم الروح وصوم الجسد، جعل من ساعات وأيام رمضان ساعات عبادة وخشوع وسلام وخلق حسن. حتى ان تعاليم الإسلام تحثّ على التحلي بالأخلاق الحسنة، بأن يكون ردّ المس لما يعرض له من مضايقة هو عبارة: "اللهم إني صائم"، وبما يعني تربية النفس الإسلامية على شيء من الصبر والرد الجميل، وتجاوز الموقف الإنساني بالتي هي أحسن. وفي موازاة ذلك يأتي الفهم الواجب للصوم بأنه صوم جوارح، وليس للبعض من صومه إلا جوعه وعطشه. لكن، الراصد لحال رمضان والمسلمين هذه الأيام يرى بوضوح الهوة التي باتت تفصل بين رمضان كشهر عبادة وتعبد، وبين رمضان شهر الصرف المالي الزائد، وشهر التسوق، وشهر سباق المسلسلات الرمضانية، وشهر السهر، وشهر المناسبات الاستهلاكية المتجددة التي لا تقف عند حد. وهذه السلوكيات في مجملها نزعت عن رمضان أجمل وأهم ما فيه؛ نزعت عنه الروحانية، حتى عاد غريباً بين أهله في أوطان المسلمين.
فليس من سببٍ يقلب الأمر، بأن يكون شهر الصوم هو شهر المأكل، وشهر الصرف المالي المبالغ فيه! شهر العبادة يتحول إلى شهر مشاهدة مسلسلات تلفزيونية لا تنتهي! وكأن وحش اللحظة الإنسانية العابرة في المجتمعات الاستهلاكية، لحظة ضجيج مواقع الإنترنت، ومحركات البحث، وثورة المعلومات، رمت بثقلها على هذا الشهر الفضيل فسلبت منه روحه الأجمل.كبرت في بيت، وكجميع بيوت المسلمين، حيث لشهر رمضان أنفاس معطّرة خاصة به، وحضور لا يشبه بقية أيام السنة. كبرت في بيت، اقترن به شهر رمضان بقراءة أبي للقرآن. واقترن بصلاة التراويح، واقترن بحالة من السلام والطمأنينة وصلة الرحم التي تعم أرجاء البيت والحارة والبلد. وهذا كله كان يأتي مقترنا بسلوك إنساني مختلف عن باقي أيام السنة، حيث الرحمة والتراحم، والطيب والطيبة، وشيء جميل من فرح ومرح الأطفال.في ظل عالم يضج بالقلق والتوتر والوحشية والحروب والقتل والدمار، بات المجتمع البشري أكثر ما يكون وعياً بأهمية مدارس التأمل، وانتشرت هذه المدارس في طول وعرض العالم، وهي جميعها إنما تحاول أن تأخذ الإنسان في رحلة لعالمه الداخلي، كي ينأى بنفسه عن كل ما يشوّش ويلوث فكره وروحه. مدارس التأمل حول العالم، وبجميع قناعاتها، تحاول جاهدة أن تجعل من الإنسان أكثر سلاماً مع نفسه ومع ما يحيط به. ولا أظن أن أياً من هذه المدارس يستطيع مجاراة فكر وفلسفة الصوم وقدرته على أخذ الإنسان إلى مسالك النأي عن كل ما من شأنه أن يلوث لحظته روحياً ومادياً.تأخذني الدهشة وأنا أرى سباق المحطات الفضائية العربية إلى مسلسلات رمضانية بائسة. مسلسلات تفتقر إلى الفني بقدر افتقارها إلى أي فكر إنساني. مسلسلات تمسخ بعص الممثلين، بدعوة الفكاهة والتفكّه، فيأتي الأداء هابطاً وسوقياً لدرجة يخجل المشاهد من متابعته.أفهم تماماً مقولة: لست مجبوراً على مشاهدة ما لا ترغب فيه، لكني هنا بصدد الإشارة إلى أن ترتفع سوية المسلسل العربي بما يتناسب والفن كقيمة إنسانية راقية، وبما يتناسب وطبيعة روح ومشاكل العصر الذي نحيا. رمضان شهر غريب، وكل سنة يزداد غربة عما يدور حوله.
توابل - ثقافات
رمضان الغائب!
22-05-2019