الخيال والتخيّل!
يولد من ظهره ولا يتطابق معه في الصفات ولا الأدوار ولا الأثر، إن التخيّل ليس هو الخيال، والتداخل بينهما مربك!يرى كونستانتين ستانيسلافسكي أن الخيال يخلق الأشياء التي يمكن أن توجد أو تحدث، بينما يخلق التخيّل الأشياء التي لا وجود لها والتي لم يسبق لها أن وجدت، والتي لن توجد أبداً.
وستانيسلافسكي هو مؤلف الكتاب الشهير "إعداد الممثل في المعاناة الإنسانية"، أحد أهم الكتب في فن الأداء المسرحي، وهو أحد أهم مخرجي المسرح الحديث في عهد الاتحاد السوفياتي، ورغم ذلك أعترف بأن توضيح المعلم الكبير ستانيسلافسكي لم يزح عن فهمي البسيط تلك الضبابية بين الخيال والتخيّل، وكنت سأجاري جملته التوضيحية السابقة احتراماً لقدره الجليل، ودوره في اتساع رقعة الجمال عن طريق إبداعاته ومؤلفاته التي غيّرت مسيرة فن المسرح الاستعراضي الكلاسيكي، وكان من الممكن أن أفسح لتلك الجملة المجال بعقلي لكي تمرّ مرور الكرام، إلى أن استوقتني جملته عن التخيّل: "لن توجد أبداً"! هذه الجملة جعلتني أعيد التفكير في رأي الأستاذ ستانيسلافسكي، فبرأيي المتواضع أن الخيال صورة يمكن أن توجد أو تحدث، بينما التخيّل هو "ابتكار" الأداة لتجسيد تلك الصورة لتصبح موجودة فعلاً! الخيال سماء مرفوعة عن أرض بلا عمد ولا سلالم تتجاوز علوها لنعرف ما خلف سورها، والتخيّل هو "البراق" للوصول إليها! التخيّل هو الآلية في جعل الخيال واقعاً، هو الجسر والسلم والجناح و"محاية" المسافة بين الخيال والواقع، وشاغل الفراغ بين الممكن والمستحيل، أما الخيال فهو إمكانية أن يطير الإنسان كسائر الطيور في الفضاء، والتخيل هو محاولة عباس بن فرناس الطيران بجناحين من الريش لتحقيق ذلك، أو محاولة الأخوين رايت عن طريق جناحين معدنيين ومحرك من صنفهما.هناك صعوبة غالباً في رسم خط التماس بين الخيال والتخيّل، فنكاد نجزم بأنهما متماثلان، ولكنهما ليسا كذلك، فالخيال هو الجنون الذي لا نتوقع حدوثه على أرض الواقع، بينما التخيل هو الوسيلة التي تجعل الجنون يمشي على قدمين في الحدائق العامة، ويحرص على أخذ جريدته اليومية من بقالة الحي في الظهيرة، وهو من "يطبّع" العلاقة بين ذلك الجنون وبين العقل البشري ليصبح وجوده ضمن قائمة المسلمات ولا ينكره سوى مجنون!الخيال لا يمكن الحكم له أو عليه، لأنه مجرد صورة ذهنية لا تأخذ معيار الصواب والخطأ في الحسبان، بل مقياسها الوحيد هو المسافة بين الصورة والواقع المحسوس والطبيعي للبشر، بينما التخيل له صفات الفشل كمحاولة ابن فرناس- مع أنني أعتبرها فاشلة إلى حين- أو أن يأخذ صفة النجاح كمحاولة الأخوين رايت، رغم أن ابن فرناس والأخوين رايت تخيلوا كلٌّ بطريقته وبالطريقة التي أوحى بها ذكاء كل منهم لتجسيد الخيال وجعل الصورة الذهنية لإنسان يطير عالياً بين الأرض والسماء حقيقة. ورغم أن الفرق شاسع بين الخيال والتخيّل فإنهما مكملان لبعضهما، فلولا التخيل ما أصبح الخيال واقعاً، ولولا الخيال ما وُجدت حاجة للتخيّل، ومن اللافت حقاً أن الفن بأنواعه هو الوحيد الذي يملك معجزة الجمع بينهما في آن واحد، وربما هذا ما أعطاه ذلك السحر!